تنخرط طهران بمزيد من الأعمال العدائية مع محيطها، حيث يسود التوتر علاقاتها مع أغلب جوارها، وقد أضاف انفجار الوضع العسكري من جديد في منطقة «ناغورنو قره باخ» المتنازع عليها بين أذربيجان وأرمينيا، مادة جديدة لسجال إقليمي ودولي تشارك فيه إيران عن كثب، دفاعا عما تعتبره مصالح أمنها القومي، بعيدا عن الانتماءات الدينية أو الثقافية التي استخدمتها في مناطق أخرى من أجل فرض نفوذها.
ففي أزمة «قره باخ»، تنحاز إيران دون تردد إلى جانب أرمينيا ضد أذربيجان، رغم القاسم المشترك المذهبي والثقافي الذي يجمعهما، إلا أن صراعها على النفوذ الإقليمي مع تركيا من شرق المتوسط إلى ما وراء القوقاز، وحماية حصتها النفطية من بحر قزوين، والقلق الذي يجمعها مع حليفتها موسكو، من تحكم أنقرة في طرقات نقل الطاقة من هذه المناطق إلى المياه الدافئة، جعلها في الموقع المخالف للمنطق الذي تدعيه منذ قيام الجمهورية الإسلامية سنة 1979، كثورة تدافع عن المستضعفين، وكعاصمة للإسلام الثوري الشيعي، والحامية لمصالحهم في العالم، وهو ادعاء ما لبث أن تحول سريعا إلى أداة تستخدمها طهران من أجل زعزعة استقرار عدة دول، بهدف فرض هيمنتها السياسية كما تفعل الآن في سوريا والعراق واليمن، إلا أن طهران أسقطت البعد الشيعي من حساباتها في أذربيجان، والنزاع على إقليم «ناغورنو قراه باخ»، حيث تتهم حكومة باكو طهران بأنها منذ اندلاع الأحداث الأولى 1994 1988 بالانحياز إلى أرمينيا، وتقديم دعم مادي وعسكري لها، وإرسال خبراء من الحرس الثوري لمساعدتها في مواجهة الأذربيجانيين الشيعة.
لم يساعد انتماء الأذربيجانيين إلى المذهب الشيعي في تخفيف حدة توترهم مع جارتهم إيران الإسلامية الشيعية، فقد طغى العامل القومي على المذهبي في العلاقة المريبة بينهما، بسبب تقدم النزعة القومية على الدينية وسط الأذربيجانيين، هذا البعد الذي أعاق أغلب محاولات طهران في تظهير حالة إسلامية أذربيجانية، تؤسس من خلالها لنفوذ طويل الأمد وسط الأذربيجانيين، الذين تمسكوا بالطبيعة العلمانية لنظامهم من خلال الدستور، كما أن إحصاءات دولية كشفت عن أن 7٪ فقط من الأذربيجانيين، يقدمون انتماءهم المذهبي على القومي، هذا الانتماء يشكل حالة قلق دائمة لطهران، التي تتخوف من زيادة نفوذ التيارات القومية وسط مواطنيها الأذريين، كردة فعل على الشعوبية الفارسية التي تمارسها السلطات في طهران ضد الأقليات الإيرانية، إضافة إلى النزاعات الانفصالية التي تدعو إلى العودة إلى الوطن الأم، هذه الأصوات التي باتت تلاقي صدى مسموعا في باكو، التي تحتضن رسميا الجبهة الشعبية لتحرير أذربيجان الجنوبية. ففي سنة 2013، طالب أعضاء في مجلس النواب الأذربيجاني عن حزب الجبهة الشعبية لأذربيجان الموحدة، بتغيير اسم بلادهم من جمهورية أذربيجان إلى جمهورية أذربيجان الشمالية، من أجل تذكير العالم أن ثلثي أراضي أذربيجان التاريخية تقع داخل حدود إيران الحالية، حيث يبلغ أيضا عدد الإيرانيين الأذريين ضعفي عدد سكان أذربيجان، كما أن طهران تنظر بعين الريبة والقلق إلى العلاقة المتينة بين أنقرة وباكو، حيث استغل الأتراك البعد القومي في علاقتهم مع أذربيجان، واعتبارها جزءا من مصالح الأمن القومي التركي، وشريكا اقتصاديا وأمنيا، يسمح لأنقرة بممارسة دور فعال في استقرار منطقة ما وراء القوقاز، التي تؤثر مباشرة على إمدادات الطاقة من روسيا وآسيا الوسطى ودول حوض بحر قزوين إلى الأسواق الأوروبية عبر تركيا، ولا يستبعد بعض الخبراء انفجار الوضع في «قره باخ» كردة فعل تركية على التدخلات الإيرانية الروسية في سوريا، ومحاولات موسكو الضغط على أنقرة من خلال تعزيز وجودها العسكري في أرمينيا، ضمن مخطط محاصرتها.
يصر الإيرانيون والأذريون على الإقامة في الذاكرة الورمة التي تؤرخ للعلاقة السيئة بينهما، فالدولة الإيرانية المركزية وإن قبلت مرغمة التعامل مع أذربيجان قره باخ».. المسألة إيرانية وليست شيعية» كدولة مستقلة ذات سيادة، إلا أنها لا يمكن أن تتجاوز أو تنسى أن أذربيجان، كانت جزءا من جغرافيا الإمبراطورية الفارسية منذ الدولة الكسروية، إلى أن تخلى عنها شاه إيران القاجاري «فاتح علي شاه» لروسيا القيصرية بموجب اتفاقية «غولستان 1813»، ومن بعدها اتفاقية «تركمانشاي 1828»، حيث انتقلت بموجبهما السيادة على إمارات بحر الخزر، وما وراء القوقاز من إيران إلى روسيا، إلا أن هذا الانتقال خلف وراءه تعقيدات جيو إثنية بين شعوب المنطقة، تسببت بعدة حروب عرقية ودينية، وحالة عدم استقرار في منطقة بالغة الأهمية، من حيث مواردها الطبيعية وموقعها الجغرافي، حيث يدور الصراع بين الدول الكبرى والإقليمية على إنتاج الطاقة، وعبورها إلى الأسواق العالمية، فيما بات يعرف اليوم بطريق الحرير الجديد. لا تقيم إيران وزنا لأي اعتبارات خارج نظام مصالحها، وقضية «قره باخ» دليل على أنها تستغل الورقة الشيعية من أجل مصالحها، فيما المسؤولية مشتركة بين الجماعة الشيعية العربية والنظام الرسمي العربي، من أجل معالجة هذا السجال في إطار الدولة الوطنية الحامية لتعددها بالمساواة بين أبنائها في الحقوق والواجبات، وتعزيز البعد العروبي على العصبيات المذهبية كما النموذج الأذربيجاني.