رشيد سوري فلسطيني في الستين من العمر. عاشَ في لبنان طوال سنوات الحرب الأهلية. قبل الثورة السورية، اشترى منزلا ريفياً بالقرب من دمشق، حيث كان سيمضي مرحلة تقاعده، وسط اخوته وأبناء عمومته. هو عاش في لبنان، ليس فقط لأنه منضم لإحدى الفصائل الفلسطينية؛ إنما أيضاً لأن أهل أمه يسكنون في مخيم عين الحلوة، بالقرب من صيدا. مرّ على سجون المخابرات السورية مرات لا تُحصى؛ وبوتيرة روتينية، كلما انتقل من لبنان إلى سوريا. بعد تجاوزه للحدود اللبنانية، في المصنع، يسأله عنصر الحاجز السوري عن هويته، «فلسطينية«، يجيب؛ فيكون الإجراء «الطبيعي« أن ينزله من سيارة الاجرة، ويدخله إلى «المبنى«. ومن هناك يأخذونه إلى سجن «فلسطين« في العاصمة، ويخضع للإستجواب نفسه. وبعد أيام، يُخلى سبيله، الذي لا بد انه أتى إثر إتصال هاتفي من مسؤول فلسطيني رفيع مقيم في دمشق. 

تعرفتُ على رشيد منذ ثلاث سنوات، في بيروت. كان خارجاً لتوه من مخيم اليرموك، هو وزوجته وأمه وأبناؤه الثلاثة، ينتظر إتمام أوراق و«معاملات« إنتقاله إلى تركيا. وُفِّق رشيد في حياته التركية الجديدة، رتّب أمور عائلته هناك، من سكن ومدارس وطبابة، وعاد منذ أيام إلى لبنان، لمهمة عائلية على ما أعتقد؛ لم يفصح عنها، ولكنه ألمح إلى أقاربه الذين عمل على خروجهم، أخيراً، من مخيم اليرموك، وإلى انه الآن ينظم شؤون رحيلهم النهائي إلى كندا. في لقائنا الاول، تكلم كثيراً عن الحرب؛ كان مشوشاً مرهقا، متقطع الأنفاس. لم أحفظ منه سوى روايات المأساة المتجددة، وذكريات أمه عن نكبتهم الاولى، عندما استقر رحيلها في لبنان «الحلو«، ولبضعة أشهر، قبل ان تتعرف على أبيه، الفلسطيني من قرية لوبية، في مخيم الجليل، في بعلبك، حيث كانت تزور خالتها، فتتزوجه وتنتقل إلى دمشق. 

رشيد الذي يعرف الحرب، الأهلية اللبنانية الأولى، ويعاصر عن قرب وعن بعد الحرب الثانية، السورية، بدا في لقائنا الثاني مهجوسا بالمقارنة بينهما، كأنه يحاول إيجاد الإجابة عن أسئلة تؤرقه:

«في بداية الحرب في سوريا، قلتُ لنفسي بأنها «تمرّ«، كما مرّت سالفتها اللبنانية. لم أكن أتصور أبداً أنها سوف تتفوق عليها في كل شيء تقريبا، بالمأساة والتمدد والمنعطفات. بل كنتُ أجد نفسي مذهولاً، كل مرة، كلما نضَحت هذه الحرب عن كارثة جديدة، فأقول «هل كان يمكننا ان نتصور أن بشار الأسد على هذه الدرجة من القوة التدميرية؟ وأن الثورة السورية تكاد تشعل حربا عالمية؟« خذي مثلاً: قامت الحرب في لبنان من أجل قضايا أكثر خطورة من تلك التي رفعها المنتفضون السوريون. لا أقل من تحرير فلسطين بحرب شعبية، ومن تغيير النظام الطائفي اللبناني. هل هي أقل فداحة من مطالب المنتفضين السوريين الأوائل بدولة قانون وتداول للسلطة؟ بعدم الاهانة والضرب؟ بعدم الفساد؟ أو التشبيح؟ طبعاً لا. ومع ذلك لا تجد في لبنان الحرب، مع كل البشاعات التي رافقته، شيئا شبيها بالفظاعات السورية، وقد فاقت خيالنا. 

«هل السبب في طبيعة العصر؟ وقت الحرب اللبنانية، كان زمن «الحرب الباردة«، الأكثر رحمة، حيث التوازن السلبي، وترك مناطق نفوذ الأميركيين والسوفييت كلٌ لحالها؟ ربما؛ ففي الحرب السورية الآن، لم يعد يُعرف من هو حاكم العالم، من هو الشرطي الدولي الذي يردع عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. بكلام أبسط، هل عدم ممارسة الإمبريالية الأميركية السابقة صلاحياتها في «مناطق نفوذها« فتح شهية الجميع، كل بحجمه وسلاحه، فصارت سوريا أرضا سائبة، يلعبون فيها بنيرانهم، من دون حساب؟ 

«انتبهي... في أواسط السبعينات، عندما اندلعت الحرب اللبنانية، كانت الأفكار السائدة، هي لليسار والتقدمية والحداثة. هل تذكرين؟ حتى الزعماء الطائفيون، كانوا، على الأقل في العلن، يقومون بأفعال ايمان تقدمية، ينطقون بها... ولكن هذا لم يحلْ دون تحول الطائفية إلى طاقة حربية تتجاوز كل الأحزاب الوطنية وبرامجها التقدمية. الآن، وقبل الثورة السورية، صارت الإتجاهات الدينية هي الطاغية، تأخذ راحتها الى أبعد حدودها مع الإرهاب الديني، وتجد آذانا صاغية وسط شباب العالم. ألا يكون ذلك من دواعي الذهاب الى أبعد ما يمكن من الإستقواء بروح العصر هذه، وتحويل الدين إلى سلاح فتّاك، يتفوق على النووي؟ 

«الأطراف التي ارتكبت الجرائم الطائفية في لبنان، لم تكن كلها يمينية؛ انما «الجبهة التقدمية« أيضا ارتكبت الخطف والقتل والتهجير والسرقة، تجاه الطوائف المسيحية. ونظرا لاستعدادها كلها للقتال، ولا طرف سبق آخر، أو تفوق على آخر، كان لزاما أن تستمر، منذ بدايتها، تحت قيادة حاضنة وناظمة لهذه الحرب: القيادة السورية، التي مهما قيل عن تدخلها العسكري عام 1976، وعن وصايتها الملطفة في البداية والعنيفة في نهايتها، كانت هذه الوصاية تضبط الحرب، تتدخل للفصل بين اطرافها، مرة لصالح هذا، ومرة أخرى لصالح ذاك؛ وكله بموافقة اميركية، وترقّب اسرائيلي حذر، متعايش مع هذه الوصاية، بعدما رسم «الخطوط الحمر« الممنوع عليها تجاوزها .

«هذا ما جعل الحرب اللبنانية تدور وكأنها ضمن الحدود المرسومة لها؛ كأنها داخل فُقّاعة. كره اللبنانيون «حرب الآخرين على ارضهم«؟ سوف يعشقون الحرب في سوريا، التي لا تكتفي بحرب غيرها عليها، بل اشعالها نيرانها في انحاء المعمورة. نار معقدة مركّبة فيها «الجهاديون« العالميون، واللاجئون الذين هزوا أوروبا كلها، والأكراد، المظلومون والظالمون، والروس بمداواتهم لجروحهم القومية في سوريا، والأتراك، الذين أضاعوا، نهائيا ربما، سياسة «الصفر مشاكل«، و«داعش«، في العراق وسوريا، وبعد ذلك في ليبيا ومصر وتونس... وحيث أمكن. والدنيا كلها المقلوبة رأسا على عقب من جراء الحرب في سوريا... إلا إذا كانت هذه الحرب هي الترجمة الممكنة لإنقلاب كل هذه الأحوال. 

«أما بالنسبة لي أنا الفلسطيني السوري، فيمكن أن أقول إنني، في هذه الحرب عشت النكبة الفلسطينية الثانية، بعد تلك التي هجّرت أبي من فلسطين عام 1948. ولو أصغيت إلى تفجّع أمي، وهي تترك، مرغمة، بيتنا في مخيم اليرموك، سوف تقيسين الفرق: لبنان الذي هربت إليه كان مضيافاً، كريماً، حلواً. هربت إليه من فلسطين، حاملة «سرَّتها« ومفتاح بيتها، بعدما قتلت العصابات اليهودية ثلاثة عشر رجلا من قريتها. كانت لاجئة فلسطينية، ولكن «بين أهلها اللبنايين«، كما تقول. أما الآن فهل أحتاج الى وصف النكبة الفلسطينية الثانية؟ بعدد القتلى الذين دعوا أمي إلى الفرار؟ بقافلة قتلاها وجائعيها ولاجئيها غير المعترف بهم، بأرواحها وأجسادها التائهة داخل سجونها المتنقلة؟ 

«هل تذكرين الفكرة التي كنا نعزّي أنفسنا بها أثناء حرب لبنان، نحن اليساريين التقدميين، من أن لبنان لن يتغير إلا إذا تغير العالم العربي؟ الآن، بعد خراب سوريا، هل نطرح على أنفسنا السؤال ذاته؟ هل نملك الترف لطرحه؟ سؤال آخر: إذا كانت الوصاية الأسدية السورية لازمت الحرب اللبنانية، وبقيت بعد نهايتها تحكم لبنان لثلاثة عقود، فتحت أية وصاية سوف تختتم الحرب السورية؟ هل من أفق معيّن في قريبها؟ 

«ولكن أكثر ما يشغلني الآن، وما أحاول أن أتقصّى عنه هو: لو لم تحصل الحرب في لبنان، ولو لم يحكم الأسد من بعدها لبنان، ثم لو لم ينسحب الجيش السوري من لبنان مثقلا بجريمة اغتياله لرفيق الحريري... هل كانت ستحصل الحرب في سوريا، وعلى هذه الدرجة من الشمولية؟ تقول فرضيتي بأن لبنان كان «المخْمر«، المكان الذي نضجت فيه تناقضات سوريا اللاحقة وصراعاتها. طبعا تحتاج هذه الفرضية إلى الكثير من التدقيق؛ ولكن يكفيني هنا ان أذكر لكِ كم من السوريين والسوريين الفلسطينيين والتقدميين واليساريين بل حتى من البعثيين، احتجوا على الإجتياح العسكري السوري للبنان عام 1976، فسجنوا وهُمِّشوا، لا لسبب سوى لأن هذا الإجتياح كان يقصد قلب موازين القوى لصالح أحزاب وميليشيات اليمين، التي كانت على شفير الإنهزام على يد الجبهة التقدمية الفلسطينية اللبنانية... فكانت بذلك بداية توحش النظام الأسدي.