موعد 22 نيسان 2016 هو موعد مهم جدا في تركيا ولتركيا ويجب أن يكون كذلك للعالم الديموقراطي أو النازع للديموقراطية. صدِّق أو لا تُصدِّق: السلطة السياسية التركية تحاكم 2212 أستاذاً جامعيا.
في هذا اليوم، بعد عشرة أيام من الآن، وفي الساعة الثانية بعد الظهر ستنعقد جلسة للمحكمة الجزائية في قصر العدل في اسطنبول للنظر في الدعوى المقامة من النيابة العامة التركية على موقِّعي وثيقة "لن نكون شركاء في هذه الجريمة" التي تطالب السلطة التركية بوقف الحرب في مناطق الجنوب الشرقي ذات الكثافة الكردية والتي وقعها 1128 استاذا جامعيا تركياً من مختلف الجامعات التركية العامة والخاصة وأذيعت في مؤتمر صحفي في اسطنبول في 11 كانون الثاني 2016 وأعقبتها حملة اعتقالات وتحقيقات لا تزال تترافق مع إقالات وضغوطات على عدد ضخم من هؤلاء الموقِّعين الذين أصبح عددهم الآن 2212 أكاديميّاً من 430 جامعة تركية وأجنبية وبينهم شخصيات أكاديمية غير تركية.
لقد استأثر القمع الذي تتعرّض له الصحافة والصحافيون الأتراك في سياق سيتحوّل إلى تغيير غير مسبوق في بنية ملكيات شركات الصحافة والتلفزيون... استأثر بالقدر الأكبر من الاهتمام العالمي، ولكنْ في الواقع فإن الهجمة على حرية الرأي في الأكاديميا التركية لا تقل أهميةً بل هي الأولى من نوعها في تاريخ تركيا الحديث ومن الحملات القمعية الكبيرة في التاريخ العالمي.
هناك محرِّك واحد رئيسي معلن إن لم يكن الوحيد لكل هذه العملية هو رجب طيِّب أردوغان الرئيس التركي. لقد وصف أردوغان مراراً الأكاديميين الموقعين بأنهم "يدّعون أنهم مثقفون" و"حقيرون" و"خونة" و "يستحقّون السجن"...
من حيث الحجم والمضمون والنوعية يصلح اعتبار هذه الحملة مكارثية تركية بل ربما الأدق منحها إسمها الخاص في التاريخ السياسي العالمي وهو الأردوغانية.
وكما يكشف الجدول الملحق الذي حصلتُ عليه من بعض أصدقائي في حركة "أكاديميّون من أجل السلام"، فإن المكارثية الأردوغانية تطال مئاتٍ من نخبة المجتمع التركي بعضهم عُلِّق عملُه ( 28 في الجامعات العامة واثنان في الجامعات الخاصة) وكثيرون هم حاليا تحت التحقيق الإداري في مؤسساتهم (473 في الجامعات العامة وستون في الجامعات الخاصة). قلة منهم استقالت (6 في الجامعات العامة) ومجموعة كبيرة أُقيلت (14 في الجامعات العامة و24 في الجامعات الخاصة)، ناهيك عن ماية وستةٍ وخمسين حالة في الجامعات العامة وثلاث حالات تحت التحقيق القضائي فيما بلغ عدد المحتَجَزين 35 شخصا سُجِن أربعةٌ منهم هم الذين تلوا البيان في المؤتمر الصحافي قبل شهرين.
المفارقة، بل المسخرة التي يبلغها التاريخ أحياناً، أن عددا كبيرا من هؤلاء اقترعوا في دورتي 2002 و 2007 النيابيّتين، وبينهم لبراليون ويساريون علمانيون، لـ"حزب العدالة والتنمية" وزعيمه رجب طيِّب أردوغان لأنهم كانوا يعتقدون أنه قوة دَمَقرطة لتركيا في وجه الوصاية العسكرية على الحياة السياسية. وما كانوا يعرفون أو يقدِّرون، مثلنا جميعاً، أن الرجل سيقود بعد انتصاره على الوصاية العسكرية عملية تأسيس دولة بوليسية ذات نزوع أصولي إسلاموي ستضطهدهم مباشرة كما يحصل حاليا مع الصحافة والأكاديميا الشباب والفنانين والأكراد وحتى مع الإسلاميين المتنورين أصحاب الأولوية التربوية لا السياسية في العمل الدعوي الذين دعموه في البداية كجماعة فتح الله غولن وغيرهم وغيرهم.
وهؤلاء الأكاديميون أنفسهم، لا شك لحظة، بأنهم يدينون كل أنواع الإرهاب وخصوصا التي يلجأ إليها حزب العمال (البي كي كي) الكردي لكن إدانتهم للسلطة السياسية انصبّت ضد ضراوة الحرب وخسائرها على المدنيين وتركزت على الدعوة للتفاوض احتراما لما أسماه بيانهم الأول "الإرادة السياسية التركية".
لا أريد اليوم أن أوجِّه مقالي بعيدا عن قضية الأكاديمين ولكن لا بأس في هذا السياق من التذكير بأن ما يحصل حاليا من هجوم كاسر على عدد من "قطاعات الحرية" في تركيا يعيد الاعتبار لمقولة سابقة للعديد من المثقفين المصريين والعرب في ربع القرن المنصرم بأن الحركات الإسلامية ( الإخوانية ) تصل إلى السلطة ديموقراطياً ولكنها بعدما تصل من الصعب أن تتخلّى عنها. هذا ما يحصل في تركيا ولكن الإنصاف يتطلب هنا الإشارة إلى الاستثناء التونسي على هذا الصعيد الذي قدّم نموذجا ديموقراطيا من التخلي عن السلطة بعد الهزيمة الانتخابية. لأسباب مختلفة لم تصمد هذه النظرية عربيا، لأن إسقاط "الإخوان" حصل أحيانا بشكل ديموقراطي ( 30 يونيو في مصر) وغير ديموقراطي في سوريا والجزائر. وهناك حالة استيعاب جارية سلميا في المغرب. ونرجو أن تكون "خاتمة" الأحزان الجارية حاليا في تركيا خاتمة سلمية؟ لأن البلد من الناحية العملية دخل في نوع من الحرب الأهلية التي لا تستحقها تركيا وهي الأكثر تقدُّماً تحديثيا في العالم المسلم الشرق أوسطي.
إذن الجسم الأكاديمي التركي، وهنا كلمة "الجسم" في مكانها قياساً إلى عدد المعنيين الضخم. للمرأة في هذه الحركة الاعتراضية دور كبير. وهذا بديهي وربما لا حاجة للإشارة إليه في بلد تقاليد حداثية وعلمانية من مائة عام بل قياسا بحركة التحديث التركية منذ أكثر من مائة وخمسين عاما.
وحتى اللحظة إذا كان عدم اطلاع الأكاديميين اللبنانيين والعرب على حجم ما يتعرّض له أكثر من ألفي أكاديمي تركي مبررا لعدم الانتباه للموضوع في السابق، ألم يصبح مطلوبا مساهمة لبنانية أكاديمية في التضامن معهم.
أي لبنان هذا الذي لا يهتم بهكذا حدث استثنائي كبير جدا ويجب أن نقتنع أنه كبير وأنه استثنائي وأنه "يخصّنا".