لا حاجة إلى تحويل خبر إقفال دار نشر "عريقة"، "دار النهار"، إلى مناسبة لفيض الشاعرية والعزف على وتر النوستالجيا ومجد بيروت. الأجدى الذهاب إلى جوهر القضية. والقضية لا تتعلق بـ"الزمن التعيس الذي قلّ فيه قرّاء الكتب وكَثُر قرّاء الفناجين!"، هذه العبارة الرتيبة رفيقة كل المقالات التي "تنق" في الشأن الثقافي والقراءة والقارئ والكتاب، ثمة تغيرات حصلت ينبغي الاعتراف بها.
فـ"دار النهار" التوينيّة التي أعلنت عن توقفها بعد إقفال مكتبة "البرج" في وسط بيروت، ستباع اسماً ورخصة من دون الكتب، والقرار بتصفيتها صدر في 15 آذار الماضي، نتيجة وقوعها تحت كاهل ديون ماليّة بحسب ما ورد في وسائل الإعلام، ما أدّى إلى التأخر في سداد رواتب الموظفين المتراكمة منذ أشهر. بمعنى أن إدارة الدار ستنهي إرث غسان تويني في النشر، مع التذكير أن "روحية" "دار النهار" انهارت مع رحيل غسان تويني وربما قبل ذلك بنحو خمس سنوات. وإذا عدنا إلى مسيرتها، نعرف أسباب أزمتها أو أسباب وقوعها في المطبات، وليست أزمتها وحدها، فكثير من دور النشر اللبنانية أعلنت مراراً عن تعثرها وبحثها عن التمويل للاستمرار، ولا ينفصل صعود دور النشر ونزولها عن السياسات وموجاتها أو ظاهراتها.
شكل تأسيس "دار النهار"، عام الهزيمة العربية 1967، محطة في تاريخ النشر اللبناني، لجهة نوع المؤلفات أولاً (ألبرت حوراني وكمال الصليبي التاريخية...)، ولجهة الإخراج ثانياً، ونوعية الورق الفاخر ثالثاً، وشبكة العلاقات مع الجماعات السياسية اللبنانية رابعاً... وحتى في إدارتها هناك دلالات كثيرة، فقد بدأت بإدارة الشاعر يوسف الخال وتعاقب عليها محمد علي حمادة وهنري فريد صعب، ثم سمير قصير، وفادي تويني ثم سامية الشامي، وبعدها جنى تامر، فكان الختام "بدون مسك"، على حد تعبير أحدهم.
وشغل فارس ساسين في مرحلة من المراحل وظيفة المستشار الأدبي للدار، وتولى نشر كتب لوضاح شرارة(من دولة "حزب الله" إلى "أضواء بيروت ومسارحها") وأحمد بيضون وصابرينا مرفين (الإصلاح الشيعي) وناصيف نصار وطريف الخالدي ووليد الخالدي وجبور الدويهي وهدى بركات وجودت فخرالدين ... و(مع نواف سلام) "القرن في صور" ومع غسان تويني كتاب "البرج ساحة الحرية وبوابة المشرق"... وكتب ساسين أكثر من مقال عن غسان تويني وعالم النشر، في المقال الأول بعنوان: Ghassan Tuéni éditeur وأظهر فيه ينبوعا الدار: شعر ناديا تويني والمؤلفات التي يحب غسان قراءتها وكتب الحداثة السياسية والإقتصادية والتاريخية التي تواكب انتشار جريدة "النهار". وفي مقال آخر بعنوان "فتنة الكتاب وإعجازه/ غسان تويني مؤلفا"، يبين أن تويني استعاد في أواسط الثمانينات مبادراته في ميدان النشر، فأطلق بالفرنسية سلسلة تراث patrimoine التي كانت باكورتها المؤلفات الكاملة لناديا تويني، والتي دأبت منذ ذلك الحين على نشر المؤلفات الكاملة المدعومة بالصور والوثائق للأدباء اللبنانيين باللغة الفرنسية. وكانت هذه السلسلة بين أولى خطوات التعاون بينه وبين سعد كيوان، ونجمت عن هذا التعاون كتبٌ عدة توّجت المرحلة الثانية الذهبية للدار، مثل "بعلبك أيام المهرجان" و"البرج/ ساحة الحرية وبوابة المشرق" و"عهد الندوة اللبنانية".
من جانب آخر كانت تستقطب الدار كثيراً من الكتب السياسية والسياسيين، من كتاب إيغور تيموفيف عن كمال جنبلاط إلى كتاب نقولا ناصيف عن ريمون إدة، مروراً بمذكرات الرئيس الراحل الياس الهراوي وكتابات فؤاد بطرس.
بمنأى عن سرديات الماضي الغابر وذكر ذخائر الكتب، وعدا عن أزمة الكتاب في زمن الانترنت، وأزمة النشر عموماً، تفيد بعض معلومات العارفين بكواليس النشر أن "دار النهار" ذهبت ضحية سوء التوزيع في العالم العربي خصوصاً وظلت إلى آخر وقت محط كل أنظار المؤلفين الذين يكتبون في السياسة من اللبنانيين لكن هنا أيضا فُكّ الارتباط العضوي بينها وبين جريدة "النهار"، وانعكس ذلك سلبا على الدار... لناحية التوزيع، فهي كانت داراً لبنانية بامتياز، والأرجح أنها لم تكن تشارك في المعارض العربية، وحتى في لبنان كان حضورها محدوداً وتقلصت نشاطاتها، فبدأت هجرة الكتّاب منها، وأعاد بعضهم نشر كتبهم في دور أخرى.
باختصار كانت دار النهار نوعاً من تذوق فكري وثقافي لغسان تويني، ونجاحها يرتبط باختياراته وإدارته ورؤيته وحتى موقعه، وبعد رحيله كانت نهايتها. ولا ضرورة للحديث عن الأزمة المالية التي تعاني منها الدار بحسب ما ورد في وسائل الإعلام... الآن "دار النهار" اسم عريق معروض للبيع، في مدينة عريقة كل شيء فيها يغدو ذاكرة أو يتصدع، فهل من منقذ؟
وللحديث صلة عن مصائر دور أخرى ومصائر الكتب...