شعار الأقليات سلاح خطير ضد الأقليات (مقالتنا السابقة في المدن)، ويتفاقم خطره حين يكون المقصود منه الأقليات الدينية بالتحديد. حماية مسيحيي الشرق خيار إسلامي. هذه فرضية أنطوان سعد في كتابه الصادر عن دار سائر المشرق. إنها مهمة جليلة من دون شك، بل واجب ينبغي أن يتجند له كل وطني مخلص، تلك الهادفة إلى حماية المواطنين، بكافة انتماءاتهم الدينية والفكرية والاتنية والسياسية واللغوية، وحماية تنوعهم ليكون جزءاً من الثروة ومصدراً للقوة لا سبباً للصراعات والنزاعات والحروب.
الحجج والبراهين والوسائل والطرق التي استخدمها الكاتب لإثبات نظريته خانت المهمة الجليلة التي تجهر بها الفرضية (حماية مسيحيي الشرق) وأفضت إلى عكس ما رمت إليه، وذلك لأنها استندت إلى وقائع مغلوطة أو إلى تأويلات مغلوطة لوقائع صحيحة.
الخطأ المنهجي ناجم عن كون الفرضية تغفل أمراً مفصلياً في التاريخ وهو انتقال البشرية من حضارة ما قبل الرأسمالية إلى الرأسمالية، فتساوي بين ظروف متفاوتة لا تشابه بينها، وتتخيل أن العلاقات بين المسيحيين والمسلمين ظلت محكومة للمعايير ذاتها منذ الفتح العربي حتى الربيع العربي، ومنذ انتشار الدعوة الاسلامية حتى قيام الدولة الداعشية. مع أن وقائع التاريخ تقدم أكثر من دليل على أن الحروب الدينية القديمة لم تنشب بين أديان مختلفة بل بين مذاهب مختلفة داخل الدين الواحد، وعلى أن تلك الحروب كانت تتخفى خلف المعتقدات الدينية فيما هي في حقيقتها تنافس على السلطة ونزاع على المصالح.
الأخطل النصراني ووقفته الشهيرة أمام عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي( كأنني عليك أمير المؤمنين أمير) ليس كمثلها شيء في علاقات الشعراء المعاصرين، مسلمين ومسيحيين، مع أنظمة المخابرات الحديثة. لا تلك كانت ترجمة لسياسة التسامح و "الحريات الديمقراطية" المستحيلة في ذلك الوقت، ولا هذه تعبير عن صراع ديني بين الأديان أو بين العلمانية والدين. فلا أمير المؤمنين، كان حاميا للدين الاسلامي ضد منافسيه من الأديان الأخرى ولا البعث والأحزاب الحديثة الأخرى نماذج نقية للعلمانية.
الحروب الصليبية، وهي الأقرب إلى نموذج الحروب الدينية( مع أنها ليست كذلك) لم تكن سبباً لنشوب حروب بين المسيحيين والمسلمين في الشرق ولم ينجم عنها تهجير أي مسيحي في نهايتها ، بل أكثر من ذلك، كان مسيحيو الشرق، وهم أقلية دينية في الشرق، أكثر استبسالا في الدفاع عن بلادهم ذات الأكثرية الاسلامية في وجه الغزاة القادمين من الغرب المسيحي. إنها بلادهم والغزاة غزاة حتى لو كانوا إخوة في الدين.
الحروب أيام السلطنة العثمانية كان لها مضمون مختلف. ترافقت بداياتها مع بشائر الانتقال الأوروبي إلى الحضارة الرأسمالية. التواريخ تثبت ذلك. ففي النصف الثاني من القرن الخامس عشر تزامن سقوط القسطنطينية 1452، مع سقوط غرناطة 1492 ومع اكتشاف أميركا في العام ذاته، وفي تلك الفترة بدأت النهضة العلمية وظهر السلاح الناري. بعض تلك الحروب التي خاضتها السلطنة ضد مملكتي اسبانيا وهابسبورغ، أو تلك التي نشبت بين شمال أوروبا اللوثري وجنوبها الكاثوليكي، كانت جزءاً من أعراض التحول إلى الرأسمالية، خاضتها السلطنة والكنيسة، ولكل منهما ذرائع ظاهرها ديني، دفاعاً عن سلطة مهددة باجتياح القيم الرأسمالية الثقافية والسياسية والاقتصادية. الصراع داخل ولايات السلطنة العثمانية، الذي بدأ مع مدافع نابليون عام 1898، كان على الدوام بين المرحبين بالوافد الرأسمالي الجديد والمعترضين عليه. كلما كانت تنفتح أبواب التحول الرأسمالي، ولاسيما على الصعيد السياسي، كان يتأمن منسوب أعلى من الحماية، وكلما أوصدت الأبواب السياسية أمام التحول الديمقراطي كانت تتهدد مصائر معارضي السلطة. ولهذا لم تشكل الأحزاب القومية والأنظمة التقدمية ضمانة لأحد لأن علمانيتها كانت تمويهاً لصيغ شتى من الاستبداد تمتد من نظام الحزب الواحد إلى الجمهوريات الوراثية وأنظمة السلالات.
لا الاستئثار بالسلطة ولا الارتهان للأقوى يشكلان ضمانة وحماية. فقد حكمت المارونية السياسية لبنان بحصة راجحة تمثلت برئاسة الجمهورية وقيادة الجيش ومديرية الأمن العام والمديرية العامة لوزارة المالية ورئاسة جهاز المخابرات، مع أغلبية نيابية وصلاحيات رئاسية غير محدودة، وعند أول انعطافة حقيقة لبناء دولة القانون والمؤسسات الشهابية، تشكل الحلف الثلاثي الماروني واستخدم الوتر الديني والطائفي في مواجهة رئيس الجمهورية الماروني. وحين تزعزع حكمها رهنت نفسها والوطن للعدو وللصديق، حتى بدت كأنها تستجدي الحماية اليوم من "المسلمين" ولم تقتنع بعد أن مصدر الخطر على المسلمين كما على المسيحيين واحد: إنه الاستبداد.
نظام الاستبداد لا يستهدف أحدا دون أحد، بل هو ينطلق من عدم الاعتراف بالآخر المختلف ويعمل على إلغائه أيا كان دينه ومعتقده وهواه السياسي، وليس أفضل من النموذج السوري دليلاً على أن ضحايا الاستبداد لا ينتمون إلى دين دون سواه أو إلى طائفة دون سواها. صدام حسين ضحى بصهريه عند خروجهما على الطاعة. الاقليات، دينية وغير دينية، ليست احتكاراً مشرقياً ولا مغربياً، بل هي ظاهرة تعم العالم من أوله إلى آخره، وهي لا تعاني من القهر إلا في بلدان الاستبداد. أما الشعوب التي تعيش في بلدان الحد الأدنى من الديمقراطية، البلدان التي تحترم حق الآخر بالاختلاف، وفي بلدان تداول السلطة، فإن الحماية مؤمنة لها بقوة المساواة تحت سقف القانون.