تشهد منطقة الشرق الأوسط اضطرابات غير مسبوقة في ظل صراعات طائفية خلقت فوضى عارمة، شلت النظام القديم قبل أن تدخل في مرحلة أرست نظامًا جديدًا. ووفقًا لجميع المؤشرات، ستستمر هذه الأزمة القاتلة إلى أفق غير محدد، تنذر بازدياد بؤر الصراعات ودخول لاعبين جدد.
أما إيران، اللاعب القديم الحديث ورأس الفتنة في كل قضية في المنطقة، فتبقى قيد الاستفهام عن مصيرها ومستقبلها، وعن تحالفاتها السابقة والقادمة، وعن داخلها الملتهب بقومياته ومذاهبه، ناهيك عن المواطن البسيط الذي يبحث عن لقمة عيشه ولم يحصل عليها في ظل نظام الولي الفقيه.
وعلى ضوء الاتفاق النووي مع القوى العظمى، ثم نتائج الانتخابات البرلمانية ومجلس الأوصياء، هل يقبل النظام بوقف الاعتداءات على حقوق المواطنين، وفي مقدمتهم الشعوب غير الفارسية، ويعترف بحقوقهم؟ وهل سيتبنى هذا النظام سياسة التعايش السلمي مع دول الجوار ويوقف تدخلاته السافرة في الدول العربية؟ أم يستنسخ مسارًا جديدًا لتصبح دولة ملتزمة بالمعاهدات والمعايير الدولية ومتسامحة وبعيدة عن النزوات الثورية؟ أم تبدي استعدادها لمنح الشعوب غير الفارسية الحد الأدنى من الحكم الذاتي وتقرير المصير؟ وهذا سيكون كفيلاً بمنع حربٍ أهلية محتملة في ظل الظروف الملتهبة، كما حصلت انهيارات في دول البلقان ويوغوسلافيا السابقة على أسس نزاعات عرقية وقومية.
أم سيصبح نظام العمائم أكثر غطرسة وقمعًا وذا سياسة توسعية في الإقليم، يستعير الطائفة الشيعية ويستغل أبناءها لمآربه الخاصة وبناء حلمه (إمبراطورية الولي الفقيه) الموهوم، لو سنحت له الفرصة؟.. وعلى ضوء كل هذه الأحداث، السؤال الأهم هو «ما مستقبل إيران، وكيف يمكن تفاديه في المرحلة المقبلة؟ وهل الإصلاحيون، بعد تعزيز مكانتهم في الانتخابات الأخيرة، بمقدورهم قلب التوازنات الحاكمة في نظام الولي الفقيه لصالح تهدئة الأوضاع مع دول الجوار، وعلى وجه الخصوص المملكة العربية السعودية؟ أم سيبقون عل حدود مساعي محمد خاتم الرئس السابق؟».
وبعد استبيان عجز الإصلاحيين عن وقف سياسة خامنئي التوسعية من جانب، وتجهيز العسكر والحرس الثوري للاستعداد لمرحلة مدفوعة بالتدخلات الخارجية أكثر مما مضى، حسب معظم التقديرات المتاحة في الداخل الإيراني لرصد سياسات خامنئي المستقبلية في المنطقة من جانب آخر، هل هناك خيار آخر مطروح غير تبني سياسة تغيير النظام الحاكم في إيران؟ وهل هذه المهمة تبقي على الشعب الإيراني وحده، أم على كل دول المنطقة وشعوبها والعالم، من أجل التخلص من آفة مدمرة أصبحت تهديدًا داهمًا للجميع؟
من الواضح أن الرئيس روحاني نجح في جذب الاستثمارات الأجنبية إلى إيران وفتح الأبواب أمام دخول الشركات الأجنبية، وبخاصة في قطاع النفط الذي يحتاج إلى أكثر من 200 مليار دولار استثمارات للتكرير والصيانة والتحديث في بنيته القديمة، والمتوقع في داخل كواليس النظام أن هذه الاستثمارات ستنعش النظام.. ولكن هل ممكن بهذه المحاولات أن يحيا؟
من جانب آخر، تقوم السياسة الإيرانية على محورين؛ الأول استغلال مذهب الشيعة والتابعين له وتصوير الولي الفقيه بالوصي والزعيم على هذه الطائفة المحترمة، بينما تقمَع شيعة الأهواز وتعادي شيعة أذربيجان وتبني تحالفًا مع أرمينيا ضد دولة باكو الشيعية. أما المحور الآخر، فيتركز على التمجيد بالقومية الفارسية وتحريض أتباعها أن يكونوا أسياد المنطقة وتحقيق أحلامهم ببناء إمبراطوريتهم الكسروية القديمة. هذا التوجه الثاني يتجاوز المؤمنين بالولي الفقيه، ويشمل نزعة فارسية بحتة لا تؤمن حتى بالدين الحنيف، ولذلك نرى حتى بعض الصحافيين في الداخل وفي الخارج يصنعون شخصية ملهمة من قائد فيلق القدس قاسم سليماني، ويصفونها بالأسطورة والساحرة والكاريزما الخاصة.
الدافع الأساسي لهذا التوجه يكمن في بث الكراهية للعرب. وجنرالات الحرس بعد قمع الشعوب الإيرانية وقتلها في الإعلام، يصبحون فرسان الحروب المقدسة ضد أي شيء يتعلق بالعروبة. لا يوجد أي بلد في العالم لديه برامج ثقافية واجتماعية ودينية ضد العرب وتاريخهم مثلما تفعل إيران في داخلها، وازدادت هذه البرامج في الآونة الأخيرة لتشمل كل مجالات الحياة. إذن، لا يمكن توقع انفتاح في العلاقات على المدى المنظور، والمطلوب تغيير سياسات إيران جذريا.
ما يثير الاستغراب أن ازدواجية الآيديولوجيا الطائفية والنزعة القومية الفارسية طغت وامتدت حتى إلى اليسار الإيراني بكل مواصفاته التاريخية المعروفة المناهضة لـ«التخلف العقائدي» و«القومية» ورأسماليتها، حيث نرى أن اليسار الإيراني المتربع في الخارج أكثر تحمسا لقاسم سليماني و«فتوحاته في العواصم العربية».
ولكن من حسن حظ العرب، الشعوب غير الفارسية لا تشارك الولي الفقيه في آيديولوجيته الطائفية ونزعته القومية الفارسية. عرب الأهواز، وغالبيتهم شيعة، لا ينظرون إلى هذا المذهب امتدادًا لثقافة ملالي إيران، التي هي مطبوخة أساسًا بالنزعة القومية الفارسية منذ دويلة البويهيين مرورًا بالصفوية، ووصولاً إلى علي خامنئي، وإنما مذهب الشيعة هو امتداد لأسرة عربية شريفة من قلب الجزيرة العربية لا تدخل إطلاقًا في أي صراع يقوم على حساب المصالح العربية العليا. والأهم من ذلك، بعد سنوات من القمع والاضطهاد ونهب الثروات الأهوازية على يد الحكومات المتتالية، رفع الأولوية الوطنية أصبح فوق كل الاعتبارات الأخرى لدى الأهوازيين.
كما أن هناك البلوش في شرق إيران وجنوبها، وهم مهمشون اقتصاديًا وثقافيًا إلى درجة يصعب على الولي الفقيه وجلاوزته بناء جسور ثقة معهم، خاصة أن مذهبهم السني مهدد فعليًا من قبل مؤسسات الترويج الطائفي التابعة للولي الفقيه. الأذريون (الشعة) والتركمان (السنة) أصبحوا متمسكين بقوميتهم التركية المهددة تحت المد الفارسي أكثر من أي وقت مضى. والأكراد الذين حاولوا فتح أبواب التفاهم مع السلطة المركزية في إيران بعد تخليهم عن الكفاح المسلح، أصبحوا الآن يدركون ألاعيب الولي الفقيه وحيله، ونكس الوعود على طريقته بعدما بقوا يتفرجون على إعدامات شبه يومية بحق شبانهم الأبرياء.
ستقف الشعوب غر الفارسية بقوة في وجه الساسة التمييزة العنصرة في داخل إيران قبل أن تخرج وتضرب العرب في أوطانهم.