كل محاولات الترقيع لن تنفع. لم تعد الدولة جسداً ميتاً، فحسب، وعدم إكرامها بدفنها، يجعل رائحة تحلّلها تطغى على فضائحها: ففي كل قطاع فضيحة، وفي كل وزارة مزراب، فيما الحكومة تحولت باجتماعاتها العبثية إلى مسخرة، وهي التي تحتاج كل جلسة لمجلس وزرائها إلى معجزة.
كان الأمل بجلسة حكومية تتصدى للأزمات المتراكمة التي تواجه البلد، فإذ بها تذكّر أنها بالكاد قادرة على الحفاظ على خيط التواصل بين مكوناتها، في ظل أزمة داخلية، بامتدادات خارجية، تزداد حدتها مع الوقت، حتى يخال للمرء أن الصراع السياسي بين «المستقبل» و «حزب الله» هو أهون التحديات التي تواجه البلد.
غياب الدولة يتحول إلى صك براءة لكل من يحلو له الاعتداء على المال العام واستباحة القوانين. من فضيحة الإنترنت غير الشرعي التي أظهرت وجود شبكة مترامية الأطراف «على عينك يا تاجر»، إلى أزمة النفايات التي لا تزال روائحها تذكّر بانتقال الحكومة من صفقة إلى صفقة، ومن فضيحة الاختلاسات في قوى الأمن الداخلي إلى الأمن المهزوز في المطار، فكارثة الاتجار بالبشر والقمح الملوث واستمرار الاعتداء على الإعلام اللبناني، وآخره وقف «نايل سات» لبث تلفزيون «المنار».. كلها ملفات لم تجد طريقها إلى طاولة مجلس الوزراء.
كان من السهل، أمس، تمرير اعتمادات ومصاريف سفر وحضور مؤتمرات لمختلف الوزارات، لكن عندما طرح أول ملف جدي، كانت النتيجة طيران الجلسة إلى الثلاثاء المقبل.. أو ربما إلى أجل غير مسمى، إذا لم يتمكن رئيس الحكومة من معالجة الأمر قبل موعدها. ملف أمن الدولة ليس سوى صورة مصغرة عن فضائح السلطة وصراعاتها، والأسوأ أنه أعاد الخطاب الطائفي، بكل فظاظته، وبلا قفازات، إلى صدر مجلس الوزراء. هذا الجهاز الأمني لهذه الطائفة، وذاك لتلك، والمس بهذا الجهاز يعني مسّاً بحقوق الطائفة ويا غيرة الدين.. وما إلى هنالك من عناصر للتهريج الحكومي المستمر.

«الدولة تعلق في.. أمن الدولة»
كانت نقطة التحول مع بند صرف اعتمادات إلى مديريَّتَي الأمن العام وقوى الأمن الداخلي. طلب وزير السياحة ميشال فرعون البحث في اعتمادات مديرية أمن الدولة قبل الوصول إلى البند المخصص له وفق الترتيب، وأيده بذلك وزيرا «التيار الحر» جبران باسيل والياس بو صعب ووزير «الكتائب» آلان حكيم.
وقد جرى نقاش استمر من الثانية عشرة حتى الواحدة والربع، حيث طالب الوزراء الاربعة (فرعون وباسيل وبوصعب وحكيم) بتفعيل الجهاز وصرف الأموال له ليتمكن من العمل.
وقال باسيل: «إن وزارة المالية لا تصرف الأموال المخصصة للمديرية، خاصة المساعدات الاجتماعية، وإذا أردتم جعلها قضية طائفية مسيحية، فهذه ليست عقدة»، فرد وزير المال علي حسن خليل: «هذا كذب وافتراء، لقد تم صرف كل الأموال المخصصة للرواتب والمساعدات المرضية والقضايا الاجتماعية والتقديمات المدرسية، لكنه لم يصرف بند السفر والنفقات السرية، لان هناك التباساً حول ما إذا كان القانون يوجب توقيع مدير عام الجهاز ونائبه سوياً على المصاريف أم لا، ومن يطرح الموضوع بهذه الطريقة، فإنه يريد فتنة في البلد». كما علق وزير الداخلية على الموضوع بالقول: إنها ليست عقدة. معك حق، هذا مرض!
وأكد وزير الاتصالات بطرس حرب أن مطالب أمن الدولة يجب ان تُقر، وكذلك موضوع أمن المطار، واقترح على رئيس الحكومة وضع بند «أمن الدولة» بندا أول في الجلسة المقبلة.
وأثار بعض الوزراء موضوع المصاريف السرية للجهاز، والصلاحيات بين مديره العام ونائبه، لا سيما في المناقلات والترقيات، ولكن وزير الداخلية نهاد المشنوق طالب بإقرار اعتمادات قوى الأمن الداخلي، مشدداً على أنه لا يجوز أن يتعطل عملها، رافضاً التعرض لها، في رد غير مباشر على اعتبار باسيل أن قوى الأمن هي جهاز طائفي مذهبي.
وقالت مصادر وزارية إنه عند احتدام النقاش بشكل حاد وتشعبه واتخاذه طابعا طائفياً، رفع الرئيس سلام الجلسة، وتأجل البحث بباقي البنود المهمة، لا سيما أمن المطار وقضية حجب «قناة المنار»، التي كان سيطرحها وزيرا الإعلام رمزي جريج والاتصالات بطرس حرب لاتخاذ قرار بشأن تجديد العقد بين الحكومة وشركة «نايل سات».
وبعد الجلسة، قال المشنوق: بكل بساطة تقرر في الجلسة أن طائفة أمن الدولة أهم من البلد وأمن المطار والقوى الأمنية أهم من الحكومة. وقد طلبت شطب الكلام الطائفي من محضر الجلسة.
وأوضح بوصعب أن «مديرية أمن الدولة تقدمت من رئاسة مجلس الوزراء بنحو 160 طلبا للحصول على «داتا الاتصالات» للقيام بعملها، من دون أن تؤدي طلباتها إلى أي نتيجة، فقال الرئيس سلام: «إن الطلبات في الجارور».
وقال خليل: كنا سنحل مشكلة أمن الدولة، فعلقت كل الدولة. أما باسيل فقال: لا يريدون حلا لمشكلة أمن الدولة، بل يريدون حل الجهاز، وليس هناك من جهاز مهم وآخر غير مهم.
واعتبر الوزير وائل أبو فاعور أن الدولة علقت في أمن الدولة، فيما اختصر الوزير روني عريجي المشهد بالقول: أجواء البلد السياسية أصبحت أجواء موبوءة، وهذا ما يهدد وضع الحكومة.

سماحة إلى السجن مجدداً

وفيما لم يعد في البلد ملاذ من «عصفورية السلطة»، التي صار جنونها يؤثّر في كل مفاصل الدولة، سوى القضاء، فإن الأخير مطالب بإثبات استقلاليته وقدرته على اتخاذ القرارات التي تحمي ما تبقّى من هيكل المؤسسات وتعطي الأمل للبنانيين بإمكانية الخروج من القاع الذي أوصلتهم إليه الطبقة الحاكمة ـ الفاسدة.
وإذ ينبري القضاء للتحقيق في عدد من الملفات الرئيسية والحساسة، وسط ضغوط سياسية تسعى لقطع الطريق على أي إنجاز يؤدي إلى معاقبة المجرمين المعتدين على المال العام وأمن الناس، خطت قضية ميشال سماحة خطوتها الأخيرة أمس. واستعان الوزير السابق، من قفصه، بآخر الكلام ليحاول تبرئة نفسه أمام محكمة التمييز العسكرية. لم يتلُ هذه المرّة فعل الندامة، بل اكتفى بالحديث عن «المصيدة التي أوقعه بها جهاز أمني لبناني (فرع المعلومات)».
دليل البراءة وجده سماحة بالحديث عن ماضيه كـ «رجل للسلام، حينما كان عضواً في لجان ضدّ العنف». لم يوفّر الرّجل «دليلاً» واحداً، إلا واستعان به، بما فيه التطوّرات الحاليّة على الحدود ودفاعه عن الجيش اللبنانيّ.
انتهت كلمة سماحة، وهو، على الأغلب، لن يظهر في مكانٍ عام قبل أشهر طويلة. فهو قد عاد موقوفاً بانتظار نطق محكمة التمييز العسكريّة بمدّة العقوبة التي سيقضيها، بعدما أكّد رئيس المحكمة إثر رفع الجلسة، أمس، أنّ الحكم قد يصدر في غضون يومين.
لا شيء بيد وكلاء الدّفاع عن سماحة، إلا انتظار الحكم، ولو أنّهم متشائمون من النتيجة التي يُحكى أنّها تتراوح بين 7 و10 سنوات، أو ربّما أكثر. ومع ذلك، هم فعلوا كلّ ما يجب فعله: ثلاث مرافعات قسّمت بين المحامين صخر وشهيد الهاشم ورنا عازوري.
وإذا كانت مرافعة صخر الهاشم ركّزت على المواقف السياسيّة، وخصوصاً على موقفَي وزير العدل المستقيل ووزير الخارجيّة السعوديّ (من دون تسميتهما) معتبراً أنّ الموقفَين بمثابة ضغط على المحكمة وتسييس للقضيّة، فإنّ شهيد الهاشم وعازوري استندا إلى نقاط قانونيّة محدّدة لمحاولة إثبات براءة موكّلهما، ومركزَين على نقطة الاستدراج وعدم الشروع في القتل.
ومهما يكن من أمر، فقد انتهت القضيّة من دون أن يظهر الغائب – الحاضر ميلاد كفوري، بعد أن ردّت المحكمة طلب الدّفاع بالاستماع إلى شهادته