لبنان الكبير، الذي ولد في العام 1920، ليس وطناً، لكنه كيان أعد له دور كي ينفذه ما يبرر وجوده ويعطيه هويته. هذا الدور، وما راكمه هذا الكيان من أدوار رديفة خلال قرن من الزمن، سقط وفُقِدَ، ما يطرح السؤال جدياً: هل ما زال لبنان يحتفظ بمبرر لوجوده؟
لبنان أسس لأنظمة "الأقليات الحاكمة" في الشرق إلى جانب شقيقه العراق الذي ولد من ثورة العشرين الشيعية فحكمته الأقلية السنية. وتبعتها بقية الأٌقليات الدينية والعسكرية وغيرها.
من العراق، سقط حكم الأقليات عندما أطاحت أميركا بصدام حسين السنّي، وبدأ الحكم العلوي يترنح في سوريا ومعه إهتز الحكم المسيحي في لبنان، مع أن الرئيس الشهيد رفيق الحريري حاول إنقاذه بقاعدة "وقفنا العد" والمناصفة. وأسطع دليل على سقوط الحكم المسيحي هو عدم قدرة "الجمهورية اللبنانية" على إنتخاب رئيس مسيحي لها لعامين .... وربما أكثر.
هذا في الدور السياسي". أما بقية الأدوار اللبنانية الخمسة فهي: (1) لبنان جامعة العرب. (2) لبنان مصرف العرب. (3) لبنان مستشفى العرب. (4) لبنان صحيفة العرب. (5) لبنان ملهى العرب.
لبنان جامعة العرب:
كان هذا الدور صحيحاً وواقعيا يوم كان يوجد في لبنان 4 جامعات فقط: الأميركية، اليسوعية، اللبنانية، العربية. غالبية النخبة العربية من الطبقتين الغنية والوسطى تخرجت من واحدة من الجامعات ال 4 هذه. اليوم إرتفع عدد الجامعات في لبنان إلى 36، وفق بعض الدراسات، ولكن تدنت نسبة الخريجين العرب منها إلى ما دون 1% من إجمالي عدد الخريجين العرب من الجامعات العاملة في لبنان في العام 1975، تاريخ إندلاع الحرب الأهلية.
لبنان مصرف العرب:
مع فورة ثورات اليسار العربي في خمسينات وستينات القرن الماضي وهروب رؤوس الأموال العربية من دولها، أبتكر لنا الراحل عميد حزب الكتلة الوطنية ريمون إدة قانون "السريّة المصرفية" الذي حوّل لبنان، عملياً، إلى "قجة خفية" (حصّالة) لرؤوس الأموال العربية الهاربة من دول التأميم. بعد "إيواء" ألأموال الهاربة من التأميم تحت غلاف السريّة، آوى لبنان في مصارفه أموال الحكام وأموال العديد من الثورات إضافة إلى موارده "غير المنظورة" في قجة السرية نفسها، التي تشارك الجميع في الحفاظ عليها وحمايتها لأنها تخص "الجميع". الآن، إنكسرت سريّة القجة، وتحوّل من كان يوماً حاميها إلى متضرر منها أو ناقم عليها، وسقط دور "لبنان مصرف العرب".
لبنان مستشفى العرب:
إضافة إلى المستشفيين الرئيسيين، الأميركي والفرنسي، شهد لبنان في ستينات القرن الماضي ما عرف ب "المستشفيات السياحية" التي كانت تقدم، إلى الخدمات الطبية الممتازة ، خدمات فندقية مميزة. كان الثري العربي يأتي إلى لبنان، يدخل المستشفى ليس لأنه مريض بالضرورة، بل لإجراء "فحوصات" وفي نفس الوقت الإستفادة من خدمات المستشفى الفندقية. مسلسل حروب لبنان الأهلية ... المستمر قضى على "السياحة الطبية" التي حاولت أن تعوض بعضاً من خسارتها في السنوات الخمس الأخيرة بالجراحة التجميلية الناجحة إلى أن قضت عليها فوضى "مراكز التجميل" التي كبحتها وزارة الصحة "وبهدلتها" مؤخراً سماجة مهرجي الإعلام "الترفيهي" الرخيص.
لبنان لم يعد مستشفى العرب، مع أنه ما زال يذخر بنخبة من الأطباء المميزين، الذين يهجرونه بهدوء إلى بلدان أكثر أمنا، وأماناً، وجدية، وإحتراماً.
لبنان صحيفة العرب:
مر زمن كانت صحف لبنان، التي تطبع إحداها 12 ألف نسخة من العدد الواحد، أقوى من صحف مصر التي تطبع الواحدة منها ما لا يقل عن مليون نسخة. كانت صحافة لبنان تؤدي دور سوق عكاظ، تمدح هذا النظام العربي، أو تنتقد ذلك النظام العربي... وتتقاضى "المعلوم" لقاء وظيفتي المدح والهجاء.
اليوم، ما عاد مدح المدّاحين يفيد الممدوحين، وما عاد هجاء الهجائين يغيظ المهجيين، بل صار "يستفزهم" ضد الإعلام اللبناني عموماً، وصار مسلسل الإفلاسات الإعلامية حديث الساعة، بما يشبه الحديث عن جمع تبرعات لنازحين أو منكوبين. الرعونة اللبنانية أسقطت دور لبنان "منارة" الإعلام العربي، وصار البلد أقرب إلى "فانوس طنبر إعلامي".
لبنان ملهى العرب:
هذا الدور مستمر، وسيستمر، مع فارق أن تصنيفه هبط من مستوى 10 نجوم إلى ما دون الصفر. هبط من مستوى ملهى محترم، ومطعم للذواقة، وفندق فخم، إلى وضعية "ماخور مع خدمة سوبر ديليفيري". في ستينات القرن الماضي حرص "عليّة القوم" على كسب ود "الفاضلة عفاف" التي كانت تدير "عمارة دعارة" في إحدى أرقي مناطق بيروت السكنية.
اليوم صار الكل يتهرب من "شي موريس"، لا لأن موجة أخلاق ضربت البلد، بل لأن الموضوع مجرد مسألة تصنيف طبقي: تدنى مستوى الزبائن، فتدني مستوى الخدمة ... لم يعد لبنان مسرحاً لخدمات جاسوسة-قوادة إسرائيلية من مستوى شولا كوهين (لؤلؤة الموساد) التي إخترقت خدماتها الإدارة اللبنانية السياسية والأمنية والمصرفية إثر الإستقلال في الأربعينات، ثم حُكِمت بالإعدام في الستينات، لكن الحكم خُفِض وتمت مبادلتها مع الكيان الصهيوني بعد حرب 67 وتولى إبنها إسحاق ليفانون منصب سفير إسرائيل لدى جمهورية مصر العربية لاحقاً.
(5-أ) تصدير عمالة ماهرة: لبنان فقد هذه الميزة الأخيرة نتيجة رعونة مكوناته وتخبط حكوماته، فلم يعد أحد من العرب يرغب في الإستفادة من الخبرات اللبنانية، هذا إن لم يكن يريد التخلص منها.
لبنان فقد كل الأدوار، ولم يعد مغرياً .... حتى كماخور تجسسي لإسرائيل.
محمد سلام