طار الرئيس سعد الحريري الأسبوع الماضي إلى العاصمة الروسية موسكو، ليلقى استقبالاً يليق، على أقل تقدير، برؤساء الحكومات. استقبله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون آخرون. عاد الحريريون من موسكو ليكرروا الكلمة التي لا تحبها الديبلوماسية الروسية في وصف بوتين: القيصر. يتحدّث التيار الأزرق عن عظمة روسيا، وقوتها، وتأثيرها، وواقعيتها.
يُظهرون الكثير من الزهو، وهم ينسبون إلى الرئيس الروسي عبارة خاطب بها الحريري. يقول المستبقليون إن بوتين قال لرئيس تيار المستقبل: «أنتَ لستَ رئيساً سابقاً لمجلس الوزراء. أنت رئيس دائم للحكومة». أراد الروس القول إنهم يتمتعون بصلات ممتازة مع جميع القوى السياسية في لبنان والإقليم. والحريري في نظرهم، هو أحد قادة «الاعتدال»، بحسب مطّلعين على تفاصيل الزيارة. الملف السياسي الأول لدى القوى اللبنانية هو انتخاب رئيس. لم يتطرّق بوتين والمسؤولون الآخرون الذين استقبلوا الحريري إلى الشغور الرئاسي، إلا بكلام عام عن ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية في أقرب وقت ممكن. كيف يُصرَف «الدعم الروسي» للحريري في لبنان؟ تُعدّ موسكو الأرضية لمواكبة أي حراك مقبل، يؤدي إلى تسوية ما في لبنان. وحتى ذلك الحين، لا نتيجة مباشرة لأي دعم تقدّمه لأي من فريقي النزاع. ففي مقابل «اهتمامها» برئيس المستقبل، تقول مصادر رفيعة المستوى في فريق 8 آذار إن حزب الله تلقى رسالة من المسؤولين الروس، تقول إن «موسكو تؤيد، بالمبدأ، انتخاب رئيس توافقي. لكننا نؤيد خياركم». وهذا الكلام لا ترجمة عملية له في لبنان أيضاً. فالواقع السياسي المحلي يظلّله أداء سعودي غير مفهوم.
موسكو لحزب الله: نؤيد،
بالمبدأ، انتخاب رئيس توافقي. لكننا ندعم خياركم
وهذا الأداء يستهدف بالدرجة الأولى الرئيس سعد الحريري. ولا يكاد الأخير يلتقط أنفاسه بعد ضربة يتلقاها، حتى يعاجله حكام الرياض بأقسى منها. عاد إلى لبنان بعد طول غربة، فإذا بهم يسحبون الهبة للجيش، ويبدأون إجراءات لمعاقبة اللبنانيين. حاول معالجة الخلل، فأعلنوا في وسائل إعلامهم (مطلع آذار الفائت) إحالة ملف شركة «سعودي أوجيه» التي يملكها على إمارة الرياض، بعد تأخرها في دفع رواتب موظفيها، فضلاً عن اتخاذ إجراءات «عقابية» بحق الشركة، من قبل وزارة العمل السعودية. زار الحريري بعدها عاصمة المملكة، وأشاع مقرّبون منه معلومات تقول إن الأبواب فُتِحت لحل أزماته. لكن قبل ثلاثة أيام (4/4/2016)، صدر «الخبر اليقين». وليّ وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، في مقابلة مع وكالة «بلومبيرغ»، قال إن حكومته لا علاقة لها بأزمة «سعودي أوجيه». أكّد أن الرياض دفعت لشركة آل الحريري جزءاً من مستحقاتها، وأنها ستدفع مستقبلاً كامل تعهداتها، «لكن كلما حوّلنا لهم الأموال إلى حساباتهم المصرفية، يسحبها المصرف». لفت إلى أن «أوجيه» تعاني من ديون داخل المملكة وخارجها، وأنها «غير قادرة على دفع كلفة تشغيلها». ثم أضاف: «هذه ليست مشكلتنا. هذه مشكلة سعودي أوجيه». وأكّد أن الحكومة السعودية لن تتدخل في هذه المشكلة، فاتحاً الباب في الوقت عينه للتدخل، بهدف حماية حقوق العمال والمتعاقدين مع الشركة، في حال لجوئهم إلى القضاء! اللغة التي استخدمها بن سلمان لم يعتدها اللبنانيون، علناً، من مسؤول سعودي يتحدّث عن السياسي اللبناني ــ السعودي الذي درجت العادة أن يصفه ملك آل سعود بـ»ابننا». بدا وليّ وليّ العهد كمن يقول للحريري: «قَلِّع شوكك بإيدك». كلامه أقرب إلى التهديد بالتدخل لغير مصلحة إمبراطورية الحريري، منه إلى عبارات «الاحتضان» التي يُقال منذ عقود إن العائلة الحاكمة في الرياض تستخدمها مع آل الحريري. «سعودي أوجيه» بدت في نظر «الأمير الشاب» كأيّ شركة أخرى تنفّذ مشاريع للسلطات السعودية، في زمن الشحّ الناتج من سياسة مستشاري بن سلمان، وانخفاض أسعار النفط، وارتفاع النفقات العسكرية في اليمن وسوريا وغيرهما. ماذا تفعل الرياض؟ لا أحد من زوار المملكة يملك الجواب. يتردد الكلام ذاته: «بن سلمان يريد إفلاس «سعودي أوجيه» ليستحوذ عليها»؛ «الجيل الجديد من حكام الرياض لا يرى في الحريري استثماراً ناجحاً في لبنان، ولا يجد نفسه ملزماً بإنقاذه. فغالبية السياسيين السنّة يقفون مع السعودية، من دون أن يكلّفوها دولاراً واحداً، فلماذا يجب عليها أن تدفع للحريري؟»؛ «بن سلمان وابن عمه محمد بن نايف لا ينظران إلى لبنان بالطريقة ذاتها التي كان ينظر فيها إليه الجيل السابق من الحكام. فلبنان بالنسبة إلى «المحمدين» هو ساحة صراع مع إيران لا أكثر». كل هذه العبارات لا تعطي إجابة شافية عن الأسئلة المركزية: لماذا تترك السعودية الحريري وحيداً؟ وبأي أسلحة تريده أن يواجه حزب الله؟ وهل قرّرت التخلي عنه؟ لمصلحة من؟ تبقى الأسئلة معلّقة، ليتسلى السياسيون بإشارات لا تسمن ولا تُغني. يقولون إن الأموال السعودية التي تُدفع لحلفاء الحريري البارزين لم تنقطع، رغم أنهم اتخذوا خيارات تستفز الرياض. ويُحكى عن زيارة قريبة سيقوم بها الوزير المتمرّد على الحريري، أشرف ريفي، إلى الرياض، للمشاركة في اجتماع لمجلس أمناء «جامعة نايف للعلوم الأمنية». أي إن ريفي سيحل ضيفاً، كما منذ أكثر من 7 سنوات، على وليّ العهد السعودي محمد بن نايف، المعروف بأنه لا يُكن كثير ودّ للحريري. خطوة يراها بعض «المستقبليين» بلا أي مغزى سياسي، لكونها «روتينية»، فيما يجد فيها آخرون دليلاً إضافياً على تراجع حظوة رئيس التيار الأزرق في عاصمة «وطنه الثاني».
داخلياً، ينعقد مجلس الوزراء اليوم وأمامه ملفات «تفجيرية»، كمشكلة المديرية العامة لأمن الدولة التي تأخذ طابعاً طائفياً، وملف تمويل الإجراءات الأمنية في مطار بيروت الدولي. وتتزامن هذه الجلسة مع انعقاد محكمة التمييز العسكرية، في جلسة ستكون الأخيرة، لمحاكمة الوزير السابق ميشال سماحة، في قضية تهريب متفجرات من سوريا إلى لبنان، ومحاولة تنفيذ أعمال إرهابية. وستكون الجلسة مخصصة للمرافعة، على أن يجري توقيف سماحة، بحسب القانون، تمهيداً لإصدار الحكم النهائي فيه. ويتردد في الأوساط القضائية والسياسية أن الضغط الذي مارسه تيار المستقبل على القضاء في هذا الملف، سيُنتِج حُكماً يعيد سماحة إلى السجن، ليقضي نحو 18 شهراً إضافياً فيه.