تتدافع في «أروقة» الدولة اللبنانية، بل في «أنفاقها»، فضائح الفساد التي لطالما تفنن أصحابها في ارتكاب المحظور، وتجميع الضحايا، كالطوابع التذكارية.
ما إن يُفتح ملف موبوء حتى يظهر آخر لا يقل شأناً، وكأن المصيبة في لبنان لا تهون إلا عندما تتكشف أخرى أشد فظاعة وفتكاً، وليس حين يُعاقب المتورطون الذين غالباً ما يفلتون من العقاب.
يكاد عدّاد الفضائح يضرب في هذه المرحلة أرقاماً قياسية، من شأنها أن تؤهل لوائح الفاسدين المحليين لمنافسة «وثائق بنما» و «ويكيليكس».
كيفما مددت يدك تقع على فضيحة هنا أو هناك، في زمن انعدام الوزن وسقوط الحد الأدنى من الضوابط. والأرجح أن معظم اللبنانيين كانوا يلهثون خلال الأيام الماضية وهم يحاولون اللحاق بالملفات المتدحرجة في كل الاتجاهات.
انترنت غير شرعي، اختلاس في قوى الأمن الداخلي، مشروع ملتبس لتركيب الكاميرات في بيروت، شبكة إتجار بالبشر من مشتقات القرون الوسطى، أطباء «أجهضوا» رسالتهم الإنسانية المفترضة، قمح غير مطابق للمواصفات، تلوّث بيئي وصحي بفعل آثار النفايات المتراكمة، رئاسة شاغرة، حكومة متعثرة، مجلس نيابي معطل، جهاز لأمن الدولة بات يحتاج الى من يحميه..
وأغلب الظن، أن ما ظهر حتى الآن، على فداحته، ليس سوى رأس جبل الجليد، الذي إذا ما ذاب، فإن سيولاً من الفضائح ستتدفق وستأخذ في طريقها بقايا هذه الدولة المهترئة.. خصوصاً إن لم تكتمل دورة المساءلة والمحاسبة.
.. وحده القضاء بإمكانه تحويل هذا التهديد الى فرصة.
وحده القضاء يستطيع أن يعيد ترميم سمعة لبنان ودولته، إذا حزم أمره وقرر أن يضرب البنية التحتية للفساد، من دون أن يحسب حساباً للحمايات التي طالما شكلت بيئة حاضنة للمرتكبين.
صحيح أن الواقعية تستوجب الاعتراف بأن هناك «وصاية» أو «مونة» سياسية على العديد من القضاة المعرّضين عند كل منعطف واستحقاق، لضغوط شتى.. لكن الصحيح ايضا أن الوضع المزري الذي آلت اليه أحوال الدولة والناس، بات يتطلب تغيير قواعد اللعبة التقليدية، ولو استدعى ذلك من هؤلاء القضاة «الانتفاضة» على أنفسهم، وإصدار «حكم مبرم» غير قابل للاسئتناف بالخروج من سجن التعايش مع الأمر الواقع.
ويواجه القضاء حالياً اختبارات مفصلية، قد تشكل نقطة ارتكاز للإصلاح ومكافحة الفساد، وربما تكرّس غياب المساءلة والمحاسبة، تبعاً للطريقة التي سيتعامل بها مع الملفات المفتوحة، والمدى الذي سيصل اليه في ملاحقة المرتكبين والمتورطين.
حمود: لا تغطية لأحد
ويقول مدعي عام التمييز القاضي سمير حمود لـ «السفير» إن القضاء ليس بصدد تغطية أحد في الملفات التي يتولى التحقيق فيها، «ونحن لن نتغاضى عن أي شخص متورط، لكننا في الوقت ذاته سنحرص على أن تكون أحكامنا مستندة الى الأدلة والبراهين، لأننا لا نريد أن نظلم أحدا».
ويؤكد أنه لم يتعرض شخصياً الى أي ضغوط، «ولم يحصل بعد أن راجعني أحد، وإذا جرى أي شيء من هذا القبيل، فلن أتأثر به، ونحن مصممون على المضي في التحقيقات حتى النهاية، وسنلاحق أي شخص مرتكب أو مشتبه فيه».
ولكن هناك شعوراً بأن عمل القضاء بطيء، قياسا على خطورة الملفات المفتوحة وأهميتها؟
يلفت حمود الانتباه، هنا، الى أن بعض المسائل التي يتصدى لها القضاء، كقضية الانترنت غير الشرعي، تحتاج الى تحقيقات فنية دقيقة، يتطلب إنجازها بعض الوقت، إضافة الى أن هناك متهمين ينكرون الاتهامات الموجهة اليهم، الأمر الذي يستوجب المزيد من التدقيق والمتابعة لكشف الحقائق.
وماذا عن خشية البعض من لفلفة قضايا الفساد في نهاية المطاف، بفعل التداخل بين السياسة والقضاء في لبنان؟
يجزم حمود بأنه لن تكون هناك لفلفة لأي ملف، مهما بلغت حساسيته، وأياً كانت هوية الأسماء المتورطة التي ستتكشف بفعل التحقيقات، «وأنا أطمئن اللبنانيين الى أن القضاء سيؤدي دوره كاملا، ولن يخضع الى أي نوع من أنواع الضغوط المحتملة، ولن يتوقف عند أي حصانة سياسية او طائفية مفترضة لأحد من المشتبه فيهم».
صقر: سنقاوم الضغوط
وفي سياق متصل، يؤكد مصدر مقرب من مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر لـ «السفير» أن صقر لن يتأثر بكل الضجيج السياسي والإعلامي الذي يواكب عمل القضاء في هذه المرحلة، وهو لن يسمح للضغوط، أياً يكن مصدرها، بأن تتحكم بوجهة التحقيق في الملفين اللذين يتولاهما وهما التثبت من وجود أو عدم وجود رابط بين شبكة الانترنت غير الشرعي والتخابر مع اسرائيل، وملابسات ما جرى في الزعرور خلال تفقد فريق «أوجيرو» الأجهزة والمعدات الموجودة في تلك النقطة، بمواكبة من عناصر قوى الأمن الداخلي.
ويلفت المصدر الانتباه الى ان هناك محاولة لجعل الاعتبارات السياسية تطغى على المعايير القضائية، إلا ان القاضي صقر لن يقبل بذلك، وهو يواصل عمله وفق ما تمليه عليه قناعاته.
ويكشف المصدر عن ان التحقيق الذي يجريه صقر في احتمال حدوث اتصال مع العدو الاسرائيلي عبر شبكة الانترنت غير الشرعي، أظهر حتى الآن انه لم يحصل أي تخابر من هذا القبيل، أو دخول اسرائيلي على خط الانترنت المخالف، وفق ما تبلغه من مخابرات الجيش وفرع المعلومات في قوى الامن الداخلي، علما أن التحقيق مستمر في هذا الاحتمال.
وفي ما يتعلق بحادثة الزعرور، يشير المصدر الى ان صقر كان قد أنجز التحقيق فيها، والذي تبين بموجبه انه لم يُسجل اعتداء على عناصر مخفر بتغرين التي كانت ترافق فريق «أوجيرو» في مهمته، موضحا ان العناصر الامنية أكدت في إفاداتها عدم حصول اعتداء عليها أو اعتراض لها، في حين ان موظفي «أوجيرو» بدّلوا إفاداتهم، من نفي وقوع الحادثة الى تأكيدها.
وأوضح المصدر أن صقر سيعيد فتح هذا الملف وسيتوسع في التحقيق، بناء على تمني لجنة الاتصالات والإعلام النيابية، حتى لا يبقى هناك أي مجال للالتباس أو الغموض حول حقيقة واقعة الزعرور.
وتعليقا على الحملة التي تعرضت لها المحكمة العسكرية خلال اللقاء الذي نظمته «القوات اللبنانية» في معراب أمس، نقل المصدر عن صقر استغرابه الشديد لهذه الحملة وتنبيهه الى أن اعتراض البعض على سلوكيات معينة لا يبرر الهجوم على مجمل المحكمة العسكرية، محذرا من مخاطر التعميم في هذا المجال.
ويشدد صقر، وفق المصدر المقرب منه، على انه فعل كل ما يتوجب فعله لتصويب الأمور في قضية ميشال سماحة، لافتا الانتباه الى انه لا يجوز، بسبب المآخذ على بعض التفاصيل، ضرب مبدأ بقاء المحكمة العسكرية التي لا يمكن الاستغناء عنها، ومتسائلا: من يستطيع أن يأخذ على عاتقه الملفات الدقيقة التي تتولاها هذه المحكمة إذا ألغيت؟