تتراكم الكراهية كل يوم في مجتمعاتنا بشكل مخيف، وتعمل الجماعات التي تمتهن صناعة الكراهية على توظيف رؤوس أموال هائلة في الفضائيات ووسائل الاعلام وقنوات التواصل الاجتماعي المتنوعة، التي تشدد على التخويف من الآخر وإشاعة كراهيته. وتهتم بتجنيد الفتيات والشباب اليافعين، وتبتكر مختلف الوسائل لتربية وحش كراهية العالم والآخر، على نحو يربض في قلوبهم، ويبلغ مرتبة تفوق قدرة الكائن البشري على التحكم به، لذلك يتفشى العنف في لغتهم وأصوتهم وأجسادهم ومواقفهم، ويخفقون في إخفائه، مهما حاولوا أن يغلفونه ويتكتمون عليه. أعرف بشراً ممن يتفانون في تلوين سلوكهم بصور مشرقة، ويحاولون تقليد ومحاكاة سلوك شخصيات مسالمة دافئة وديعة، لكنهم يفشلون في التغلب على عدوانيتهم المتجذرة، لذلك نراهم كأنهم قنبلة موقوتة تتفجر عنفاً، مع أول تماس بأي كائن بشري. التربية على الكراهية عبثت بروح الانسان ومزّقت الأوطان .. من يتسمم قلبُه بالكراهية يفشل في محبة ذاته، فضلاً عن عجزه عن محبة الله والانسان، وأي كائن آخر في العالم. مثلما لا يمكن اطفاء النار بالنار. الدماء لا تسكن بمزيد من الدماء. الكراهية لا تسكن بمزيد من الكراهية. التعصب لا يشفى بمزيد من التعصب. الطائفية لا تشفيها طائفية مضادة.
الكراهية والعنف معتقدات وايديولوجيات وفتاوى كراهية، لا يمكن الخلاص من الكراهية والعنف بدون الخلاص من الفتاوى والأيديولوجيات والمعتقدات التي تسمم عقول ومشاعر وأرواح الشباب.
الكراهية والعنف قابعة داخل الكثير من الأشخاص في مجتمعاتنا، يحملها الشخص معه حيثما كان، وأنى أقام .. تترسب الكراهية والعنف في شخصياتنا مبكرا، بدأ بعنف الأسرة، ثم المدرسة، والشارع، والثقافة، واللغة .. تمثلاتهما تطارد عالمنا، عبر: تسلط الاستبداد، وتفشي القراءة الفاشية للنصوص، والتدين المتوحش، وصناعة الانتحار. أقرأ بعض أدبيات السلفية الجهادية فأجدها بمثابة الوليمة مسمومة، التي من الصعب جداً شفاء أرواح الشباب الذين يتذوقونها.
نحن على الدوام نحاسب الانتحاري المباشر، وننسى السبب .. ننسى ذلك الفكر السلفي المتعصب العنيف، الذي عمل على غسيل مخه وتجنيده، والذي نعثر على مثاله القبيح في بعض المقررات والكتب المدرسية، وفيما تغرقنا فيه بروباغندا القنوات الفضائية الطائفية. والذي يفضي بطبيعته إلى انتاج خيال مغلول أيديولوجياً، يشعر معه المرء بأنه هو فقط دون غيره، الذي يكون الله دائماً معه، لا مع غيره من المبتدعة والزنادقة والهراطقة. ذلك انه: الأخلاقي، صاحب الضمير اليقظ، البرئ، المنصف، العادل، النبيل، المتفوق في معتقده .. هذا هو ما يسمم روحه، بمختلف أنماط: التعصب العنيد، الكراهية المتصلبة، الفتك البشع، ويجرده من أي شعور بالذنب، حيال انتهاكاته لكرامة الناس - خارج قبيلته وحزبه وطائفته - واستهتاره بحقوقهم، وعدوانه عليهم.
التفسيرات المتكررة لتفشي الكراهية هي تفسيرات تآمرية دائماً، تتهم الآخر بأنه علة العلل لكل فقر وجهل وأمية وتخلف وعنف في مجتمعاتنا. نحن ننحت عادة صورة متخيلة للأشخاص والمجتمعات، ونكره أو نحب هذه الصورة، إنها صورتنا التي خلقناها، وهي عادة لا تحاكي الواقع. لست محامياً عن الآخر، ولا أريد أن أتجاهل أو أسوغ خطايا الاستعمار والاحتلال،
لكني أود أن أنبه إلى أننا لسنا المجتمعات الوحيدة التي تعرضت للاحتلال والاستعمار، هناك مجتمعات تعرضت لإبادة، وبلدان تعرضت للتدمير، لكنها تغلبت على جروحها، وخرجت من كهوف ماضيها، وانشغلت ببناء حاضرها، والاستثمار في مستقبلها.
لأضرب مثالاً في مجتمع من المجتمعات الحديثة، وهو المجتمع الفيتنامي، فقد استمر هذا المجتمع طوال نصف قرن يقاوم الاستعمار الفرنسي ثم الاميركي، وتعرض للتدمير والإبادة، ثم تحررت فيتنام وانتهت المقاومة، ووجد المجتمع الفيتنامي نفسه خارج منطقة الحرب، فانشغل بإعادة البناء والتنمية، ولم ينشغل بإعادة انتاج الكراهية للمجتمعات الغربية، والعلم والمنجز التكنولوجي الحديث. مقاومتهم وقتالهم لم تكن منبعاً لكراهية المجتمعات الغربية، وإنما وجد نفسه بكل سهولة يمكن أن يتعاطى مع العلم الغربي والمجتمعات الغربية، من دون عقدة، أو مشكلة، واستمرت حياته وأنجز مكاسب هامة في البناء والتنمية.
إننا جميعا نهرب من تسمية الأشياء بأسمائها، ونلجأ لحيل مفضوحة، تتكتم على ما تتضمنه المدونة الكلامية والفقهية، من أحكام: المشركين، أهل الذمة، الرق، الجزية.. إلخ. وتكفير الفلاسفة وذوي التفكير الحر، وأتباع الفرق والمذاهب.. فقد كفّر ابن تيمية مثلا من المسلمين: الفلاسفة، والمتصوفة، والجهمية، والباطنية، والإسماعيلية، والنصيرية، والإمامية الإثني عشرية، والقدرية.
لم ينفرد ابن تيمية بذلك، بل نعثر على غير واحد من الفقهاء ممن يفتي بكفر هؤلاء، وربما غيرهم، خاصة تلامذة مدرسته، ومن ترسموا منهجه في التفكير. ولا تخلو من التكفير مدونة علم الكلام واعتقادات الفرق وفقه المذاهب.
ولم يزل تراث ابن تيمية وسواه حاضراً فاعلاً مؤثراً، عبر دراسته وتدريسه، وتبني آثاره في البحث والكتابة والمناظرة، واتخاذه مرجعية للتقليد في التدين والسلوك والتعامل مع الآخر.
هذا التراث ما زال يتوالد ويتناسل بأقنعة وبلا أقنعة، فبعض الكتّاب يحاول أن يخلع قناعاً يغطي به مقولات نفي الآخر وكراهيته بشقشقات لغوية وألفاظ مستعارة من الألسنيات وفلسفة اللغة والمنطق والعلوم الانسانية. وفي آثار سيد قطب تمت صياغة تراث الكراهية هذا بلا أقنعة، وبلغة تعبوية شعبوية. آثار سيد قطب مثال يؤشر لنمط الفهم المتفشي في أدبيات الجماعات الاسلامية ورؤيتها للعالم والدولة الحديثة ونظمها، وكيفية التعاطي مع المجتمعات في هذا العصر، ولعلسيد قطب أهم منظّر لأدبيات الجماعات الاسلامية، إذ تشكلت رؤية الاخوان المسلمين للدولة والمجتمع والعالم في سياق مقولاته، وفرضت كلماته سطوتها على مشاعرهم وأحاسيسهم. والاخوان المسلمون هم المعمل الذي توالدت منه أبرز هذه الجماعات وأشدّها تأثيراً في عالم الاسلام، وتناسلت في ضوء مقولاتأدبياتهم مقولات محورية في ثقافتها.
الكلمات السحرية في أدبيات الجماعات الاسلامية هي كلمات سيد قطب، الذي عمل على صياغة مقولات محورية في هذه الأدبيات، استلهم مضمونها من أبي الأعلى المودودي، ومن قبله المودودي استوحاها من ابن تيمية، وكانت لدى المودودي تعبيراً عن إعلان تفوق هوية أقلية مسلمة، تعيش في مجتمع فسيفسائي مشبع بتنوع ديني وأثني، في شبه القارة الهندية، فقد حاول المودودي أن يدلل على تميز هذه الأقلية واستعلائها واصطفائها على كل تلك الجماعات، بوصفها ناطقة بكلمات السماء، ومستخلفة على سواها من المعتقدات والديانات.
سيد قطب يمتلك براعة بيانية مشتعلة، تتقن تأجيج العواطف، ومخاطبة الغرائز، وإضرام نيران القلوب باللوعة والأسى. ومعلوم أن طغيان الذاكرة العاطفية يبدّد الذاكرة العقلية. ومع أن الذاكرة العاطفية قصيرة العمر، لا تلبث طويلاً، لكن الضخ والتغذية اليومية للذاكرة العاطفية بالأحقاد، وإيقاد الكراهيات التاريخية بين الطوائف، وإذكاء التعصبات المجتمعية بشتى أصنافها، يوقدها باستمرار، ولولا ذلك لطواها النسيان، وعشنا بسلام.
المقولات المحورية في تفكير سيد قطب حين نراجع نصوصه نجدها تتمحور حول مقولات: (الربوبية، الألوهية، الحاكمية، الجاهلية، العبودية). صاغها هو ولوّنها بصور مشحونة بدلالات شعورية انفعالة غاضبة، وهي بمجموعها تمثل نسيجاً عضوياً لشبكة مفاهيم متصلة بعرى وثيقة، ليست سوى تنويعات بعضها على البعض الآخر، تنبثق واحدة من الأخرى، وهي في الوقت الذي تشتق منها، مثلما يشتق الفرع من الأصل، تعود اليها لتجذرها، وتثري محتواها، بما يضيف اليها ويعززها بالمزيد من غربة الكائن البشري عن واقعه ومحيطه، وكينونته وإنسانيته، ذلك أنها تتعاطى مع كائن متخيل، رسمته أحاسيس ومشاعر وانفعالات وعذابات سيد قطب، لا يتطابق مع خصائص وماهية البشر الأرضي، إنه كائن ترسمه كلمات ملونة باللوعة والدموع والاشتياق لعالم طوباوي، يقفز على الأرض وما تضج به حياة البشر فيها، إنه مخلوق نحتته أحلام وأوهام سيد قطب، ولونته الجروح النازفة للسجن والاضطهاد والحرمان الذي عاشه عدة سنوات من حياته. ففي مطالعة لكتاب (معالم في الطريق) لسيد قطب أذهلني حجم الغضب والحنق والتحريض في هذا الكتاب الصغير، ضد الآخر المختلف
سواء كان فرداً أو جماعة. كما أدهشتني براعة الكاتب في حقن غرائز المراهقين المجروحين بالأسى والحرمان والالتياع، وشحن قلوبهم بوقود سريع الاحتراق، ممن لا يحتاجون الى سوى عود ثقاب بسيط لتشتعل أرواحهم. نصوص الكتاب مكتوبة بلغة لا تخلو من شعارات حماسية، وبيان سهل التلقي والاستجابة، ذلك أنها مصاغة بإسلوب يبرع في عبور العقل، وإيقاد العواطف والمشاعر. كلمات سيد قطب مشبعة بأحكام وتوصيفات تزدري كل المجتمعات أمس واليوم، وتنعتها كلها بالجاهلية، والانحراف، والتخلف. أكثر الكلمات تكرارا في الكتاب هي: (جاهلية - حاكمية - عبودية)، فقد تكررت كلمة جاهلي وجاهلية 183 مرة، بل وردت كلمة جاهلية في صفحة واحدة 9 مرات، لا يتجاوز عدد كلمات هذه الصفحة 200 كلمة. هو يصنف كل المجتمعات أمس واليوم على أنها جاهلية، ماخلا مجتمع الصحابة.
يحكم سيد قطب على مجتمعات العالم اليوم بقوله: (نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم.كل ما حولنا جاهلية .. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا إسلاميًا .. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية!!)[1]. ويتسائل سيد قطب: "ولكن ما هو المجتمع الجاهلي ؟ ". فيجيب: (إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا: إنه كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده .. متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية، وفي الشرائع القانونية .. وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار "المجتمع الجاهلي" جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلا!)[2]. أما الفلسفة والعلوم الاجتماعية فحكم سيد قطب عليها هو حكمه على الحقوق والحريات التي تشتمل عليها " الشرائع القانونية"، أي إنها كلها جاهلية. يكتب سيد قطب: (إن اتجاهات "الفلسفة" بجملتها، واتجاهات "تفسير التاريخ الإنساني" بجملتها، واتجاهات "علم النفس" بجملتها - عدا الملاحظات والمشاهدات دون التفسيرات العامة لها- ومباحث "الأخلاق" بجملتها، واتجاهات "التفسيرات والمذاهب الاجتماعية" بجملتها - فيما عدا المشاهدات والإحصائيات والمعلومات المباشرة، لا النتائج العامة المستخلصة منها ولا التوجيهات الكلية الناشئة عنها - .. إن هذه الاتجاهات كلها في الفكر الجاهلي - أي غير الإسلامي- قديماً وحديثاً، متأثرة تأثراً مباشراً بتصورات اعتقادية جاهلية، وقائمة على هذه التصورات، ومعظمها -إن لم يكن كلها- يتضمن في أصوله المنهجية عداءً ظاهراً او خفياً للتصور الديني جملة، وللتصور الإسلامي على وجه خاص!)[3].
ويبلغ موقف سيد قطب مديات قصوى في الهجاء، إذ يقول: (وهذه الجاهلية خبثت قديماً وخبثت حديثاً .. يختلف خبثها في مظهره وشكله، ولكنه واحد في مغرسه وأصله)[4].
هكذا يشطب سيد قطب على كل العلوم والمعارف الانسانية ومكاسب العقل والخبرة البشرية الحديثة، وكل ما امتلكه البشر من حقوق وحريات وقوانين، بعد أن أدرجها بمجموعها في خانة "الجاهلية". بل يصنف كل مجتمع بوصفه جاهلياً، حين لا يتطابق والصورة المتخيلة للمجتمع الاسلامي في ذهنه. ومجتمعه الاسلامي المتخيل هو جيل الصحابة، الذي يعليه على أي جيل ظهر أو يظهر لا في تاريخ الاسلام خاصة بل في تاريخ البشرية عامة، إذ يشيد بذلك الجيل الذي يصطلح عليه بـ"جيل قرآني فريد"، وينعتهبقوله: (لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلا من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلاً مميزًا في تاريخ الإسلام كله، وفى تاريخ البشرية جميعه. ثم لم - تعد تخرّج هذا الطراز مرة أخرى . نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ . ولكن لم يحدث قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة)[5].
ميزة الدولة الحديثة أنها دولة متخصصين وخبراء في مختلف مجالات العلوم والمعارف البشرية، يتعذر بناء أية دولة حديثة بلا هؤلاء المتخصصين والخبراء، ازدراء كل العلوم والمعارف البشرية، وتجاهل الخبراء المختصين في بناء الدولة، بوصف التخصص والخبرة اليوم : "متأثرة تأثراً مباشراً بتصورات اعتقادية جاهلية"، وأن من يختص بها إنما هو في "جهالة علمية"[6] حسب توصيف سيد قطب، هو بمثابة من يريد تأسيس مستشفى بلا أطباء.
هذا الموقف الارتيابي من المعارف والعلوم الحديثة، تشبعت به الكثير من أدبيات الجماعات الاسلامية، ورغم اختلاف أشكال وأساليب تعبيرها عنه، فإنها تشترك في حالة سوء الظن والارتياب من أية معرفة في مجال الانسانيات لم ينتجها مسلمون. وكما هو معروف أن المسلمين منذ قرون عدة لم يبدعوا علومهم ومعارفهم الخاصة بهم، وانما اعتمدوا وما زالوا يعتمدون معطيات العقل الحديث وإبداعاته في المجالات المختلفة ، ولولا استعارتهم تكنولوجيا وعلوم ومعارف الآخر (الجاهلي!، بتوصيف سيد قطب) للبثوا حتى اليوم في يتنقلون في صحرائهم على البعير، ولم يبرحوا عصر البداوة.
ومثلما اختزل سيد قطب في عنوان "جاهلية" كل المجتمعات والمعارف البشرية والفلسفة والعلوم الاجتماعية والحريات والحقوق والقوانين في العالم اليوم، يختزل أيضاً في عنوان "حاكمية" التوحيد والألوهية وشهادة "لا اله إلاّ الله"[7]، بنحو يعني التوحيد على وفقه إقامة الحكومة واحتكار السلطة، تبعا لتصوراته حيال هذه الحكومة، بل تصير الحاكمية أيضاً مرادفة للحضارة، ذلك أنه لا يمكن أن تتحقق أية "حضارة انسانية" خارج سياق الحاكمية[8]. في ضوء ذلك انتهي سيد قطب إلى معيار يختص به في تصنيف المجتمعات إلى: (متحضرة ومتخلفة)، فهو ينفي صفة التحضر عن أي مجتمع خارج إطار الحاكمية الالهية، فكل مجتمع لا تتجسد فيه حاكمية إلهية متخلف، بمعنى أن كل الحضارات التي سادت عبر التاريخ، وقدّمت للبشرية تراثاً معرفياً ثرياً وفنوناً وآداب وخبرات غنية، هذه كلها متخلفة جاهلية. وذلك ما يشدّد عليه بقوله: (المجتمع الاسلامي هو وحده المجتمع المتحضر.. والمجتمعات الجاهلية، بكل صورها المتعددة مجتمعات متخلفة)[9].
أما من يؤسس مملكة الله، ويطبق حاكمية الله، ومن يمثله في الأرض، فيتحدث سيد قطب موضحاً ذلك بقوله: (ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال دين - كما كان الأمر في سلطان الكنيسة. ولا رجال ينطقون باسم الآلهة. كما كان الحال فيما يعرف باسم "الثيوقراطية" او الحكم الإلهي المقدس!! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة. وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة)[10]. كلام سيد قطب هنا يشي بتبسيط فاضح، وكأنه يحسب أن شريعة الله تتجسد في الأرض من دون بشر يفهمونها ويطبقونها، ومن الواضح أن فهم أولئك البشر في كل حال لا يمكن أن يكون عابراً للزمان والمكان، وخارج شروط اللغة وطبيعة الفهم البشري، وكل ما يلتبس به ذلك الفهم من سياقات ثقافية سياسية اقتصادية اجتماعية، فليست هناك معرفة ينتجها البشر، سواء كانت دينية أو دنيوية لا تخضع لمختلف شروط وسياقات الاجتماع البشري المتغيرة.
مضافاً إلى أن سيد قطب ينفي أن تكون لرجال الدين صلة بمملكة الله، ورغم أن رجال الدين هم المختصون في الشريعة وعلوم الدين، غير أنهم غير مؤهلين لمهمة كهذه، فلا يبقى إلاّ أن يكون هو وجماعته "الاخوان المسلمون" من يمثل السماء وينطق باسمها، وهم المؤتمنون على قيام مملكة الله في الأرض، وهم من يتولى تطبيق الحاكمية الالهية في الأرض.
لقد نصب سيد قطب نفسه مفسّراً للنص القرآني، وفقيهاً يفتي في الدين والدنيا، ومحتكراً للمعرفة الدينية، بشكل يفوق المختصين الذين كرّسوا كل حياتهم لتعلمها وتعليمها. رغم أنه لم يتخرّج في الأزهر، ولم يتكون في دور وحلقات الدرس الشرعي، ولم يدرس شيئاً من الفقه الاسلامي وأصوله وقواعد استنباط الأحكام الشرعية، مضافاً إلى أنه لم يتخصص أكاديمياً في الدراسات الاسلامية، فلم يتخرّج في كلية شريعة، أو أصول الدين، أو الهيات ومعارف اسلامية. بدأ سيد قطب حياته أديباً، وناقداً أدبياً، ونشر الكثير من المقالات، وبعض الكتب في هذا الحقل، وفجأة أمسى منظّراً لجملة من المقولات المرجعية الملهمة للجماعات الاسلامية. ولا ينفرد سيد قطب بذلك، إنما هذه حالة معظم منظري وزعماء هذه الجماعات، ممن يحتكرون المعرفة الدينية، ويفتون بكل شئ في الدين والدنيا، مع أن أغلبهم من الأطباء والمهندسين، ومن ذوي التخصصات العلمية، ومن غير المختصين بالشريعة والدراسات الاسلامية. لكنهم مع كل ذلك، ومنذ أكثر من نصف قرن يهيمنون على المجال العام في حياة المجتمعات الاسلامية، ويحرصون على تمثيل المسلمين في المنابر ووسائل الاعلام، والحضور الواسع المتنوع لمختلف الفعاليات والأنشطة في العالم كله، وقد فرخت أدبياتُهم الجماعاتِ القتالية المتطرفة، المسؤولة عن إنتاج هذا الكمّ الهائل من العنف الدموي، الذي يشوّه صورة المسلمين في العالم.
ما زلت أعتقد أن الدين هو السم في مجتمعاتنا وهو في الوقت ذاته الترياق، هو الداء وهو الدواء. يطغى الدين لأول وهلةٍ في الاجتماع البشري كأنه مِسْخٌ، ينفي العقلَ، يثير الرعبَ، يهدر الكرامةَ، يستلب الروحَ، يقتل الضميرَ، يخرّب التمدنَ، يحطّم الحضاراتِ، يصادر الحرياتِ، يهدر الحقوقَ، يمزّق المجتمعاتِ ... إلخ.كما هي مآلاتُه اليومَ في ولائم الدم المسفوح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا. لكن يمكن أن يتحويل الدين، من موت إلى حياة، من داء إلى دواء، من سمّ إلى ترياق، من هيروئين إلى فيتامين، من ظلام إلى نور، من حزن إلى فرح، من شقاء إلى سعادة، من ضعف إلى قوة، من هدم إلى بناء.
لا خلاص إلاّ بإلخلاص من "تديين الدنيوي"، وإعادة الدين إلى حقله الطبيعي. ومن دون ذلك ننهك ما هو ديني، ونبدّد ما هو دنيوي. أي أن تمام الدين وكماله ليس بمعنى استيعابه وشموله لكل شيء في الدنيا, وإنما هو بمعنى أن الدين لايعوزه ولا ينقصه شيء فيما يرتبط بأهدافه وغاياته في الهداية وبناء الذات البشرية، ورفدها بما تفتقر إليه إلخبرة البشرية، في فضاء عالمها الحسي المادي. أما ما يؤمّنه العقل، وما تنجزه إلخبرة البشرية، فلا ضرورة لإقحامه في الدين، أو إقحام الدين فيه.
مضافاً إلى أن وعي جوهر الدين، وإدراك بعده الأنطولوجي، من شأنه أن يضعَ الدينَ في حقله الذي يتكفل بناء الحياة الروحية الأخلاقية للذات البشرية. لكن استبصارَ البعدِ الأنطولوجي للدين يتطلب، تأملاً وتوغلاً في كينونة الذات الباطنية. وأن وعيَ الحياةِ الروحية، يتحقق بتذوق سموِّ الروحِ وخبراتِها، والتماعاتها، وتبصراتها، وإشراقاتها، ومكاشفاتها.
يكتب شلاير ماخر: (الدين رهبة وقداسة، حقل لانهائي للعقل، ينشأ بالضرورة من داخل كل روح طاهرة، وينتمي إلى منطقة غامضة غريبة من مناطق النفس البشرية، يسود فيها بشكل مطلق، وأنه يجدر به عبر ما له من قوة موغلة في العمق، أن يرمي لتحريك الأنبل والأكثر تفوقاً من القيم ..الدين كما أفهمه هو رباط وجداني مؤنس وضروري، ليس لطبيعة وجود الإنسان وحسب، وإنّما لوعيه بوجوده. ولابد لنا أن نعترف هنا، أنّه من غير الطبيعي ولا المقبول، أن نشوّه الدين بحبسه داخل مسوّغات معرفية لا تفضي إليه، لأنّها محض نظرات ضيقة تحجر عليه، وتحجّم صيرورته الفاعلة والمتأصلة في خلق الإنسان. لقد ثبت لدي أنّ للدين أهمية لا تتجلى على مستوى التفاعل العملي في معترك الحياة وحسب، وإنّما في مضمار التفاعل الفكري، لأنّه تجربة منوطة بالوجود، ينفرد برؤى ونواميس قادرة على التعبير والاخبار عن كلّ شيء. الدين طاقة أبدية غير قابلة للنضوب، دينامية وحراك تتخلل الحميمية طبيعتها، وهو أقوى من أن يضمر تحت تأثير ما يجابه به من عنف أو تسطيح، لأنّه لصيق فطرة الإنسان، التي لا يعني احتجابها، تحت أي ظرف كان، انعدامها. يمنحنا الدين قدرة على أن نرى الآخر كرؤيتنا لذواتنا، أن نتعاطى مع شرعية وجودنا عبر ما نضفيه على الآخر من شرعية للوجود).
انا ادعو لانسانية ايمانية. روحها الايمان، محتواها الحب ايمانا، الايمان حبا. انا مؤمن بالوحي. قضيتي تأويل النص وفهمه وتفسيره، لا تشكله وجمعه وتدوينه، ذلك ان النصوص المقدسة لكل الديانات مغلقة، لا يمكن زحزحة النص أبداً، بعد تدوينه وغلقه هكذا التوراة والانجيل والأڤستا وغيرها. كل المحاولات التي قام بها باحثون أمس واليوم في الشرق والغرب، من أجل رفض قدسية الكتب المقدسة، واعادة بناء النص بحذف واستبعاد، مهما كانت جديتها تخفق، اذ يرفضها المؤمنون بالأديان. المشكلة في عالم الاسلام اليوم تكمن في نمط التعاطي مع النص، وكيفية قراءته وتحيينه، بنحو يخرجه من كهوف الماضي الى رهانات العصر. النص مرآة كل قارئ يرى صورته فيه، لا تخرج مجتمعاتنا من مأزقها التاريخي وانهياراتها المتواصلة إلاّ ببعث واحياء صورة الله الملهمة للحب والجمال والرحمة والخير والعدل والسلام في النص.
ورقة مقدمة إلى: مؤتمر حماية التعددية والعيش معًا: تجارب وتحديات، ٢٩-٣٠ آذار /مارس ٢٠١٦، بيروت.
معالم في الطريق. القاهرة: الحدود للنشر والتوزيع، 2012، ص 39 – 40.[1]
المصدر السابق، ص 123 – 124.[2]
المصدر السابق، ص 168.تجدر الاشارة إلى أن أول من استعمل مصطلح "أسلمة" هو ابن تيمية، وتبعا له تبنى سيد قطب هذا المفهوم، وأضحى فيما بعد عنوانا لاتجاه تبناه جماعة "المعهد العالمي للفكر الاسلامي".[3]