أين اختفت تصريحات وليد المعلم عن أن بشار الأسد خط أحمر؟ وكيف تبّخر كلام بشار الجعفري عن أن كل المعارضة من الإرهابيين٬ وأن النظام لن يفاوضهم
في جنيف؟.. ثم لماذا «لحست» الرئاسة السورية فوًرا ما نشر في بيروت نقلاً عن الأسد «أن لا رهان على حل سياسي مع هذه المعارضة وأن الحوار معها لن
يجدي»؟
يبدو أن الأسد تعلّم الدرس الروسي جيًدا بعد قيام فلاديمير بوتين بمناورة محسوبة لّوحت بسحب قواته من سوريا٬ وبعد تصريحات المسؤولين الروس الصادمة في
دمشق بأن «على الأسد أن يمشي وفق الروزنامة التي تضعها موسكو إذا أراد فعلاً أن يخرج من الأزمة بكرامته».
يوم الأربعاء الماضي حرص الأسد على إعطاء «نوفوستي» و«سبوتنيك» الروسيتين تصريحات ترضي روزنامة بوتين٬ فقال إن «النجاحات التي حققها الجيش
السوري والدعم العسكري الروسي لن تعرقل التسوية السياسية٬ بل ستعّجل بها»٬ وإن وفده إلى المفاوضات أظهر مرونة ولن يضّيع فرصة واحدة٬ وإنه لن يترك
فرصة إلا ويجربها من أجل حل الأزمة٬ لكنه حاول الالتفاف على قيام «الهيئة الانتقالية» بالحديث عن «حكومة انتقالية».
الحكومة الانتقالية هدفها إبقاء التسوية تحت سقف النظام٬ وهو ما قد تتضمنه خطة ثلاثية سرية قيل إن موسكو وواشنطن وضعتاها قيد التشاور٬ وهي تهدف إلى
إجراء انتخابات نيابية٬ ثم وضع دستور جديد٬ ثم إجراء انتخابات رئاسية٬ ودون هذا صعوبات وشروط وتناقضات وعراقيل هائلة طبًعا.
مفاوضات جنيف التي يفترض أنُتستأنف في 11 أبريل (نيسان) تشكل فحًصا للنظام٬ وإذا كان قد ابتلع ما تنطوي عليه ورقة دي ميستورا في بندها٬ السادس الذي
يقول: «طبًقا لقرار مجلس الأمن 2254 يشمل الانتقال السياسي آليات حكم ذات مصداقية وغير قائم على الطائفية٬ ويشمل جدولاً زمنًيا لإعداد دستور جديد وتنظيم
انتخابات حرة نزيهة»٬ وفي بندها التاسع الذي يقول: «السوريون ملتزمون بإعادة بناء جيش قوي موحد بوسائل تشمل نزع سلاح٬ ودمج أفراد الجماعات المسلحة
الداعمة للعملية الانتقالية وللدستور الجديد».
إن موافقة موسكو على هذين البندين تعني قبولها عملية الانتقال السياسي في النهاية٬ وأن ما يدور من مناورات بين واشنطن وموسكو إنما يتعلّق بالروزنامة التي
تحدد مواعيد هذا الانتقال وآلياته٬ والذي يعني عملًيا موعد خروج الأسد وبطانته من السلطة٬ فهل تشّكل تصريحات الأسد فيُبعدها السيكولوجي بداية تسليم بحتمية
خروجه٬ خصوًصا في قوله إنه استجاب لكل المبادرات التي طرحت من دون استثناء ومن كل الاتجاهات؟
الأسد يحاول الحصول على صك براءة بعد استعادة مدينة تدمر٬ لكن هذا لا يلغي حقيقة أنه كان قد سلّم المدينة تسليًما إلى «داعش» في 20 مايو (أيار) من العام
الماضي٬ عندما دخلها الإرهاب دون مقاومة٬ وها هو رئيس وفد المعارضة أسعد الزعبي يقول إن «الأسد كما سلّم تدمر إلى (داعش) تسلّمها منه الآن ليحصل
على ورقة ضغط في المفاوضات»!
صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية ألقت الثلاثاء الماضي الشكوك حول حقيقة ما جرى في تدمر٬ عندما نشرت روايةُمستغربة لمدير عام الآثار والمتاحف مأمون
عبد الكريم٬ وفيها «إن النظام السوري عمل في شكل سري مع 45 إلى 50 شخًصا داخل المدينة لإقناع (داعش) بعدم تدمير المدينة.. وإن التنظيم لم يسرق أوَيبع
أًيا من الآثار»!
ولكن كيف يمكن للنظام أن يقنع «داعش» الذي يذبح البشر بحفظ الآثار٬ خصوًصا في ظل الحديث عن أنه يحاربه ويريد القضاء عليه؟.. طبًعا لا داعي للبحث
عن أجوبة رغم قول الزعبي إن «التنسيق قائم بين (داعش) والنظام»٬ لكن ما يلفت هو تصريح عالم الآثار السوري علي شيخموص في ستراسبورغ لوكالة

الصحافة الفرنسية٬ بأن «استعادة تدمر نبأ سار٬ لكن الآثار باتت معرضة للنهب من قوات النظام وحلفائه وسيقال: إن (داعش) هي التي نهبتها٬ خصوًصا أنه ليس
هناك قائمة بمحتويات المتحف»!
الأسد يطرح استعادة تدمر على أنها دليل على أنه يقود تحالًفا ضد الإرهاب٬ ومنطَلًقا لتقديم خدمات لبوتين عبر توجيه الازدراء إلى السياسة الأميركية٬ فهو قال إن
«استعادة المدينة دليل على نجاعة الاستراتيجية التي يتبعها مع حلفائه٬ في حين فشلت استراتيجية أميركا والتحالف الدولي»٬ ثم سارع مندوبه في الأمم المتحدة٬
بشار الجعفري٬ إلى ما يشبه السخرية من واشنطن بالقول إن «الحكومة السورية مستعدة للتعاون مع أميركا في تحالف دولي ضد الإرهاب٬ لكن فقط إذا نّسقت
واشنطن العمل معها٬ وإن أميركا لم تنجح ضد (داعش)٬ لأنها لم تنّسق مع الحكومة السورية٬ بينما نجحت روسيا لأنها فعلت ذلك»!
مسخرة المساخر طبًعا عندما يّدعي النظام السوري أنه المدخل الضروري لمحاربة «داعش»٬ في حين أنه الرحم الذي استولد الدواعش عبر المذابح والتنكيل
بالشعب السوري٬ لكن ما هو أهم من كل هذه «العراضات» الإعلامية ما يدور فعلاً في الدبلوماسية السرية بين موسكو وواشنطن حول سوريا.
لهذا تعالوا نقرأ كلمات نائب وزير الخارجية سيرغي ريباكوف التي أدلى بها بعد زيارة جون كيري إلى موسكو «كيري يحمل دائًما أفكاًرا ومبادرات٬ وقد بحثناها
ولدينا أفكار خاصة بنا٬ وفيما يخص التقدم نحو عقد اتفاقات حول سوريا هناك خطوات ملحوظة إلى الأمام٬ لكن هذه الزيارة لم تأِت بتغيير مبدئي أو قرارات
انفراجية حول ملفي سوريا وأوكرانيا»٬ وهذا يدفع إلى السؤال ما ثمن الأسد أوكرانًيا عند بوتين؟
كل ما قيل عن أن واشنطن اقتربت من نظرية موسكو بعدم بحث مصير الأسد ليس دقيًقا٬ فالبحث يدور حول آليات وروزنامة خروجه الذي يؤّكده التوافق على
عملية الانتقال السياسي٬ وفي السياق ينفي مايكل راتني٬ مبعوث واشنطن الخاص إلى سوريا٬ كلام روسيا عن تفهم أميركا عدم بحث مصير الأسد٬ قائلا إن
«الانتقال السياسي هو جوهر المفاوضات وهو ليس غامًضا.. إنه انتقال يستبعد الأسد». أما زيارة مدير وكالة الاستخبارات الأميركية٬ جون برينان٬ إلى موسكو
بداية الأسبوع فقد بحثت تحديًدا مسألة رحيل الأسد بوصفها مدخلاً لإيجاد حل سياسي للأزمة ربما عبر الخطة الثلاثية السرية الموضوعة قيد مداولات مع
المعارضة والدول المهتمة بالأزمة.
واضح أن هناك في الدبلوماسية السرية بورصة سياسية أميركية ­ روسية٬ لتبادل الأسهم السورية والأوكرانية٬ فعندما يقول فيكتور أوزيروف٬ رئيس لجنة الدفاع
والأمن في البرلمان الروسي٬ إن «موسكو لا تعد الحفاظ على الأسد أساًسا في التسوية٬ والعمل هو لمصلحة الشعب السوري وليس للحفاظ عليه رئيًسا٬ ولا بد
من تهيئة الظروف ليتم تحديد من يقود سوريا»٬ يصبح من الواضح جًدا أن مصير الأسد موضوع على نار الدبلوماسية السرية الهادئة!