تحول هاجس توطين النازحين السوريين في لبنان، إلى مادة خصبة للسجال الداخلي، تختلط فيها الأوهام بالحقائق، والمخاوف المشروعة بالحسابات الطائفية والسياسية الموجهة عن بُعد.
وبدل أن تفرض حساسية ملف النازحين وأعباؤه الثقيلة، مقاربة مشتركة له من جميع الأطراف، إذا بهذا الملف يساهم في توسيع رقعة الشرخ، متسببا باشتباك إضافي كاد رصاصه العشوائي يصيب الزيارة الأخيرة للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى لبنان، كأنه لم يكن ينقص سوى أن ننشر غسيلنا الوسخ على سطح «الأمم المتحدة».
ولئن كان «التيار الوطني الحر» يتصدر صفوف المرتابين في وجود نيّة لتوطين النازحين السوريين، إلا أن خصومه يعتبرون أن خطابه في هذا المجال ينطوي على مبالغات متعمدة، بغرض التعبئة الطائفية.
ولكن أين هي الحقيقة، وماذا استنتج الرئيس نبيه بري والرئيس تمام سلام من النقاش مع بان، وإلى ماذا يستند العماد ميشال عون في هواجسه؟
بري مطمئن
يؤكد الرئيس بري لـ«السفير» أن هناك من يتقصد تضخيم فرضية توطين النازحين السوريين، بغية تحويلها إلى «بعبع» للتخويف، معتبرا أنه لا توجد معطيات موضوعية تبرر القلق، ومستنتجا أن الكلام حول التوطين يافطة تخفي خلفها أهدافا مضمرة: «فتش عن رئاسة الجمهورية..».
ويتساءل بري: هل يعتقد أحد أن أي مشروع من هذا القبيل، يمكن أن يكون موجودا بالفعل، وأنا أقبل به أو أصمت عنه؟ ألا يعرفونني ويعرفون تاريخي؟ نحن سبق أن قدمنا أغلى التضحيات لمنع التوطين، وما رفضناه في الماضي لن نسمح به الآن.. هذ أمر محسوم، ويجب وضعه خارج سوق المزايدات السياسية، خصوصا أن الدستور ينص بوضوح على أن التوطين ممنوع.
ويلفت بري الانتباه إلى أن بان كي مون لم يلامس هذا الأمر خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت، لا تلميحا ولا تصريحا.
وعُلم أن بري توجه إلى بان بالقول: أنا إبن قرية جنوبية قريبة من الحدود، وكنت لا أزال طفلا عندما شاهدت الفلسطينيين يتهجرون من وطنهم ويتدفقون إلى لبنان، ومعهم مفاتيح منازلهم، على أساس أن إقامتهم عندنا لن تطول، وأنهم سيعودون إلى فلسطين سريعا، فإذا بهم لا يزالون بعد قرابة 70 عاما ينتظرون العودة.
وأضاف بري مخاطبا الأمين العام للأمم المتحدة: إن تركيبة لبنان حساسة ودقيقة، بفعل وجود 18 طائفة، وهذه التركيبة أشبه بالذرة التي إذا قُسِّمت أو فُتِّتت تولّد انفجارا كبيرا، وأي توطين سيكون عامل تقسيم وتفتيت، لا يحتمله لبنان.
وفيما أبدى بان والوفد المرافق (مديرا البنك الدولي وبنك التنمية الإسلامية) الاستعداد لتقديم مبالغ كبرى للمساعدة في تحمل أعباء النازحين السوريين، أكد بري للزائر الدولي أن المساعدة الأهم التي يمكن تقديهما هي الدفع نحو إنجاز الحل السياسي للأزمة السورية، لأن من شأن الحل أن يعيد جميع النازحين إلى منازلهم وأن يعالج مشكلتهم جذريا، «وحتى ذلك الحين، فإن أي مساعدات أو أموال لا ينبغي أن تُمنح للنازحين مباشرة، بل ينبغي أن تمر عبر الدولة اللبنانية حتى تتولى هي إنفاقها بطريقة تخدم النازحين والمحيط اللبناني الذي يستضيفهم».
ولكن بان لفت انتباه بري إلى أن المؤسسات المعطلة في لبنان لا تسمح باعتماد هذه الآلية، مشيرا إلى أن رئاسة الجمهورية شاغرة والحكومة تعمل بصعوبة ومجلس النواب لا يجتمع، ما تسبب في المرة السابقة في تأخر إقرار العديد من القروض والمشاريع.
هنا، حدّق بري بعيني بان، وقال له: أنا ألتزم امامك بأنه عند تخصيص أي قروض للبنان، عبر أقنية الدولة، فأنا سأسارع إلى عقد جلسة تشريعية لإقرارها، وفقا للأصول.
وماذا لو أصرّ «التيار الوطني الحر» وحزبا «الكتائب» و «القوات اللبنانية» على مقاطعة التشريع، في ظل استمرار غياب رئيس الجمهورية؟
يؤكد بري أنه عندما يكون الأمر متعلقا بشؤون حيوية للناس، لكنها في الوقت ذاته ليست من النوع السياسي الحساس كقانون الانتخاب، فإن نصاب الـ 65 نائبا يصبح كافيا لعقد جلسة تشريعية..
ويتساءل: حتى بالمعيار الميثاقي، أليست المصالح العليا للدولة وقضايا الناس الضرورية، مسألة ميثاقية أيضا لا يجوز إهمالها؟
ويشير بري في هذا السياق الى أهمية تنفيذ مشاريع مدروسة في المناطق اللبنانية الحاضنة للنازحين، بحيث يستفيد منها السوريون واللبنانيون على حد سواء، موضحا أن هناك إمكانية للحصول على قروض بفوائد رمزية وميسرة إضافة الى الهبات.
ويلفت الانتباه إلى أنه سيدعو بعد جلسة الحوار المقبلة إلى اجتماع لهيئة مكتب المجلس من أجل تحديد جدول أعمال الجلسة التشريعية التي ستعقد حُكما إذا توافر النصاب العادي، «ومن لا يصدقني، عليه أن يجربني».
سلام مستاء
أما الرئيس تمام سلام المعروف بقدرته الفائقة على ضبط النفس، فهو يوحي بأن كيله يكاد يطفح، وأن احتياطه الإستراتيجي من الصبر آخذ في التناقص .
يقول سلام لـ «السفير» إن شعار التحذير من توطين النازحين تحوّل إلى مجرد فزّاعة، لأنه لا يرتكز على أي وقائع ملموسة، مشيرا إلى أن المساعدات الدولية التي تُعرض علينا ليست مشروطة، ولا تؤدي إلى تكريس وجود النازحين في لبنان بشكل دائم، ولو كانت تنطوي على أي كلفة سياسية لما كنا نقبلها.
ويشدد سلام على أن فرضية التوطين هي وهم، لافتا الانتباه إلى أن البعض يتداول بها من باب المزايدات السياسية والطائفية الهادفة إلى شد العصب المسيحي وتأجيج العواطف، كأن الانتخابات النيابية حاصلة غدا.
وغامزا من قناة وزير الخارجية، يقول سلام: إذا كان هناك من لديه زعل لأنه لم يستطع أن يؤدي دورا معينا، فليس بهذه الطريقة يمكنه أن يعوّض.
ويلفت سلام الانتباه إلى أن منظمة الأمم المتحدة ليست إمبراطورية استعمارية، حتى تثار كل هذه المخاوف، «وأصلا بان كي مون سيغادر منصبه بعد ستة أشهر، وأنا لم أسمع منه ما يدعو إلى القلق والريبة، بل إن ما طرحه يخدم لبنان ويساعده في تحمل أعباء النازحين، فلماذا نجازف بخسارة هذا الدعم نتيجة مزايدات داخلية، لن نحصد منها سوى المزيد من الأضرار والأذى، كأننا نطلق النار على أنفسنا».
ويرى سلام أن الغبار الناجم عن ضوضاء التوطين الافتراضي، إنما يريد منه البعض التغطية على رفضه إحقاق الحق في استحقاق رئاسة الجمهورية، وتسببه في عدم إنجاز هذا الاستحقاق حتى الآن.
ويضيف سلام: لا سبب للهلع، وأنا أقول للمزايدين: عيب.. وكفوا عن سياسة «عنزة ولو طارت».
ويشير إلى أن «تشريع الضرورة» هو ضروري، لأنه لا يصح أن نجمد الاستحقاقات الداخلية والخارجية المترتبة علينا، متسائلا: من يعطل الرئاسة والحكومة والتشريع، ماذا يريد، وما هو بديله؟
عون متخوف
في المقابل، يؤكد العماد ميشال عون لـ «السفير» أن طريقة تعامل المجتمع الدولي والأمم المتحدة مع ملف النازحين السوريين في لبنان مريبة ومشبوهة، وتدفع إلى الاعتقاد بأن هناك محاولة لفرض التوطين كأمر واقع.
ويلفت عون الانتباه إلى أنه سبق لمجلس الأمن الدولي أن أشار إلى العودة «الطوعية» للنازحين، كما أن الأمين العام للأمم المتحدة أطلق أكثر من إشارة في هذا الاتجاه، فهل يحق لنا أن نقلق أم لا؟
ويضيف: من المؤشرات التي تدعو إلى القلق ايضا المنهجية المعتمدة لتثبيت إقامة النازحين في لبنان، من قبيل تأمين المدارس لهم لمدة طويلة، وعدم ممارسة أي جهد حقيقي لحثهم على العودة إلى وطنهم، علما أن من يلقي نظرة على خريطة سوريا حاليا، يكتشف أن معظم المناطق المأهولة أصبحت في مأمن، تحت سيطرة الدولة السورية، وبالتالي بدل استخدام المساعدات لتكريس وجود النازحين في لبنان، لماذا لا يتم استعمالها من أجل إعانة بعضهم، أقله، على العودة وتثبيت وجودهم مجددا في أرضهم.
ويشير عون إلى أن نسبة الكثافة السكانية في لبنان كانت 400 شخص ثم أصبحت 600 في الكلم2 الواحد، بينما تبلغ شخصين في الكلم2 في أوستراليا وأربعة في كندا، على سبيل المثال، فما سبب الإصرار على تحميلنا الجزء الأكبر من وزر النازحين، وإعفاء الدول المسؤولة عن الحرب في سوريا من المساهمة في تحمل التبعات؟
ويبدي عون تخوفه من تكرار سيناريو اللاجئين الفلسطينيين، مضيفا: ظلوا يقولون لنا إن توطين الفلسطينيين فزّاعة حتى أصبح وجودهم بعد عشرات السنوات أمرا واقعا متجذرا، من دون أن يوضح لنا أحد كيف سيعودون إلى وطنهم، وأنا الآن أخشى أن تُسرق ارضنا امام عيوننا، لتُستخدم في حل أزمات الآخرين على حسابنا.
ويستغرب عون الاتهام الموجه إلى «التيار الوطني الحر» ووزير الخارجية جبران باسيل بالعنصرية أو بالمزايدة، في ملف النازحين السوريين، معتبرا أن هذا الاتهام مردود، «علما أن من يوجهه إلينا لم يتحسس يوما بالمخاطر التي تهدد لبنان، ونحن في كل الحالات ننبه ولا نزايد..».
ويستهجن عون الحملة ضد باسيل «الذي احترم موقعه كوزير للخارجية، فلم يستقبل بان كي مون في المطار، لكنه كان مستعدا للقائه في وزارة الخارجية لو طلب موعدا». ويستطرد عون قائلا: بدل أن يخوضوا معارك خاطئة ويهاجموا الوزير دفاعا عن بان كي مون، أليس أفضل لو أنهم طلبوا من الأمين العام للأمم المتحدة أن يعلن صراحة وعلنا عن أن النازحين السوريين سيعودون إلى سوريا عندما تصبح آمنة، وعندها يصلنا حقنا.