عندما تفوقت المؤسسة الصهيونيّة في رسم مخططاتها التقسيمية للمنطقة العربية، وعندما اهتزّت وحدة الأمّة برياح التسلُّط والرجعية والمؤامرات الدولية، وعندما سقطت أحلام الشعوب بأنظمةٍ عادلةٍ وتقدُّمية، توّسع الحديث عن خوف الأقليات من سطوة الأكثريات، وتنامت التحليلات والتوقُّعات، وأخذت أبعاداً أكثر تعقيداً وجديّة. لم يكن الحديث عن هواجس الأقليات وكيفية التعامل مع واقع التعددية بالشيء الجديد، فقد كنّا وما زلنا نعيش حالة التنوُّع في بلادنا، نظراً لكون هذه المنطقة من العالم ومن الشرق هي مهبطُ الديانات التوحيدية الثلاث، وملتقى العديد من الثقافات المتنوّعة، ولكنّ الشعورَ القومي والوطني كان غالباً، ومقتضيات العيش المشترَك كانت مُعتَبرة، أمّا اليومَ فواقع المنطقة يفرضُ مستوىً أعلى من التحدّي في إدارة التنوُّع، بما يَعنيه ذلك التّحدي من حقٍّ وواجب، حيث لكلِّ مجموعةٍ بشرية وجودُها وحيثياتُها وعقائدُها وطقوسُها وحقوقُها وحركتُها المجتمعية، وحيث تقعُ على كلّ عائلةٍ روحية مسؤوليةُ احترام العائلات الأُخرى والتكاملِ مع سواها، وواجباتُ التربية الروحية والوطنية الصالحة والبناء المجتمعي والإنسانيّ السليم. إنّ الحديث المتجدِّدَ عن هموم الأقليات وهواجسِها اقتضاه هذا الكمُّ الهائلُ من الشحن الطائفي البغيض والعنف الديني المستشري في عصر العولمة والانفتاح، وذلك العجزُ العربيُّ والإسلاميُّ والدوليُّ عن استئصال أسباب الفتنة وتطويقِها.
ولكن، وإن كنّا عاجزين في منتدياتنا الحوارية والفكرية عن فرض الحلول النهائية ومعالجة التطرُّف معالجةً فعلية على الأرض، إلّا أنّنا لا يجوز أن نتخلّى عن دورِنا الثقافي، كمؤسساتٍ حوارية وكفكرٍ حواريٍّ، بل يحتّم علينا وجودُنا الإنساني والتزامُنا الديني وإيمانُنا بالإنسان، كمستخلَفٍ في الأرض، أن نَسدَّ الثغرات، وأن نقومَ بما يُمليه علينا الحقُّ والضمير، بلعب دورِنا الممكن، والمتمثّل بنشر ثقافة الحوار واللاعنف لحماية قيمِنا الدينية والإنسانية ومجتمعاتِنا الغنية بالتعدُّدية، وهذا أضعفُ الإيمان. إنّ واجبَ المؤسسة الحوارية يتكاملُ مع واجب المؤسسة الدينية، بحيث تقع على كليهما وعلى المؤسسات التربوية والاجتماعية والثقافية مسؤوليةُ التربية والتوعية وبناء الإنسان المنفتح والمسالِم، المنفعلِ بتراثه وقيم دينه، والفاعلِ في مجتمعه ووطنه، أيّاً كان دينُه أو مذهبُه أو عِرقُه أو موقعُه، ومن خلال هذا الإنسان الملتزمِ الواعي يُبنى المجتمعُ وتُبنى الدولة ويُغذّى الفكرُ ويحصلُ التفاعلُ الحضاريّ.
وإذا كان بناءُ الإنسان الفرد يحتاجُ إلى تربيةٍ ورعايةٍ وغرسٍ جيِّدٍ للإيمان والقيم والأخلاقيات فيه وتغذيةٍ نافعة للعقل والحواس، فكيف إذاً يكون بناءُ المجتمع والأُمّة، في عمليةٍ أكثرَ تعقيداً واتّساعاً، إذ في المجتمع عناصرُ مختلفة، واتّجاهاتٌ متباينة؛ إنَّ ذلك يتطلّبُ إتّباعَ منهجيةٍ مناسبة في العمل، وحكمةً رفيعة في التعاطي، وترفُّعاً مخلصاً عن الغرضيات والأنانيات والنوازعِ الفردية والطائفية والفئوية، واتّجاهاً صريحاً نحو ما يجمع ولا يفرّق، وما يوحِّدُ ولا يُقسّم، وذلك لا يكون ممكناً إلّا من خلال الوعي والاحترام والفَهم المتبادَل، أي من خلال الحوار، حوار الحياة وبناء الدولة والعيش معاً، بما يتطلّبُه ذلك الحوارُ من شروطٍ وما يفرضُه من واجباتٍ ويُعطيه من حقوق.
ليس الموضوعُ بجديدٍ، كما قلنا، إنّما الجديد هو ما حصل للأُمّة من مآسٍ وما واجهها من تحديات، تمثّلت، أوّلاً، باحتلال بعض بلدانها والسيطرة على مقدَّراتِها وقيام أيدولوجياتٍ دينية ومذهبية متقابلة هنا وهناك، ساهمت في إحداث صحوةٍ ما، كما يُقال، إلّا أنّها ساهمت في إيقاظ الانقسام والأحقاد القديمة، فيما رافقها ضعفٌ في البُنية السياسية والنظم الوطنية، وغيابٌ للحكم الصالح والديمقراطية الحقيقية، وإفساحٌ في المجال، بالتالي، أمام لعبة الأُمم لتأخذَ مداها في تغذية الانقسامات، وفي الدفع لتحقيق مصالح الدول الكبرى على حسابِ مصالح أوطاننا وشعوبنا، ممّا أدّى إلى واقعٍ مأزومٍ في بلادنا، استولدَ الكراهيةَ والحقدَ والتطرُفَ والعنف، وفي ما كان التجاذبُ محصوراً في ما مضى بين المسلمين والمسيحيين، أصبحَ قائماً، اليومَ، بين المذاهب الإسلامية المتعدّدة، خصوصاً بين السنّة والشيعة، وأصبح خطرُه كبيراً على الدول والشعوب، بما استدعاه من تحالفاتٍ حزبية وإقليمية ودولية، ومن مواجهاتٍ ثقافية وعسكرية لم ترحمِ الأبرياءَ ولم تحفظْ حقوقَ الناس وكراماتِهم، وهو ما شهدناه ونشهدُه منذ مطلع الألفية الثالثة، وما نزال.
إنّ العلاجَ لأمراض أمّتنا من هذه الآفات الفتّاكة يكون بتضامن الجميع لبناء الدولة العادلة، دون أن ترفع كلُّ طائفةٍ أيدولوجيتَها الخاصّة سلاحاً حاقداً في وجه شقيقتِها، ودون أن تتحوّل إلى المطالبة بحقوقها وحسب، انطلاقاً من شعورها بأنها مهدّدة وأن عليها إثباتَ شخصيتها وصيانةَ وجودها. العلاجُ يكون بالعمل الدؤوب لإرساء أيدولوجيةٍ وطنية وقومية موحَّدة، أي بالتلاقي على القواسم الوطنية والمصيرية المشترَكة، لا بالتهميش والهيمنة والإهمال والتخدير، ولا بتأمين الحماية الأجنبية للأقليات، بل بالحوار الجدّي والفعّال، على قواعد ثابتة، ومن منطلقٍ داخليٍ وإيمانٍ راسخٍ بحتمية العيش معاً، في ظل دولةٍ تحترم الدين والتنوّع الديني؛ فالأقلية التي يمكن أن تكون مهدَّدة هنا، ربما تكون ظالمة ومسيطرة ومهدِّدة للأكثرية هناك، وهذا ما يحتاج إلى نظامٍ عادلٍ أكثرَ إنسانيّة، يضمن كرامة كلِّ مواطنٍ في الدولة، ويُفسحُ المجالَ أمام الطاقات الخيّرة والإيجابية للتنافس والعمل بإخلاصٍ واندفاع، من أجل حفظِ الدين ورقيّ المجتمع ورفاهية أبنائه، وعند ذلك لا يعود هناك هاجسٌ سلبيٌّ عند الأقلِّ عدداً، ولا مطمعٌ غيرُ مبرَّر عند الأكثرَ عدداً.
من الخطأ بمكان، مقاربةُ الدور الوطني والعروبي والإسلامي للطوائف من الموقع الأقلوي، بل المطلوب بذلُ الجهد والنضال في سبيل الاندماج والتفاعل، وإجهاض المشاريع الدخيلة، ورفض الانجرار إلى العزلة والتقوقع، مهما كانت المغريات، وعدم التخلّي عن الجذور العربيّة والمشرقية، وتأكيد الانتماء إلى هذه الحضارة الواسعة والعريقة، ورفض فكرة الدويلات الطائفية المصطَنَعة، باعتبار ذلك نوعاً من الانتحار الجماعي، بينما ضمانة الوجود والسلامة تتأمّن في الانخراط بالقضايا الوطنية، والتماهي مع المحيط العربي الواسع، وليس بالانفصال عنه وبتكوين هوية خاصّة ومستقلة. هذا ما أكّدت عليه طائفة الموحدين "الدروز"، التي أُمثّلُها في هذا المؤتمر، إذ لم تقبل بأي انفصالٍ أو هويةٍ خاصة، حتى عندما كانت في أوج سلطتها، زمن التنوخيين في القرن الخامس عشر، وفي عهد الأمير فخر الدين في القرن السادس عشر، وعندما قاد سلطان باشا الأطرش الثورة السورية الكبرى عام 1925، وكذلك حين حاول الصهاينة إغراء الأقليات، ومنهم "الدروز"، بدويلات طائفية مذهبية، فكان الرفض القاطع لإقامة أي كيانٍ خاص، وكان التمسُّك بالدولة الجامعة؛ وإذا كانت الأقليات الدينية، معرّضةً، اليومَ، للاضطهاد، فالردُّ يكون بتأكيد هذا الانتماء الأصيل للتاريخ، وبالتلاقي في كنف الدولة، وليس بالهرب إلى علاقاتٍ خارجية متطرّفة للاحتماء والاستقواء، ولا بالقَبول بتكوين الهوية الخاصة، بل بتأكيد التكاتف في وجه موجات التطرف والتكفير وقمع الحريات المتصاعدة، يوماً بعد يوم، وفي التصدّي الواعي لمخططات القوى الكبرى التي تَستنسخ الصدام وتستولدُه في المنطقة، خدمةً لمصالحها، وفي مواجهة سياسات الأنظمة القمعية التسلطية، ومعالجة الخلل الديمغرافي المتزايد، بسبب الهجرة القسرية، طلباً للعمل والعيش الكريم، ونتيجة لعدم الاستقرار وانعدام الأمن والراحة.
إن تطرُّف بعض المجموعات الدينية، على تنوّعها، يخلق الاستبداد والفوضى، ولا يخدم إلّا إسرائيل، خصوصاً في ظلّ غياب الدولة الديمقراطية القادرة، وسياسة التصدّي الجماعي للمشكلة القائمة، برؤيا موحَّدة وتكاتفٍ قويّ، بينما المطلوب هو تطمينُ الأقليات ودفعُها لتجاوز عقدة "الأقلويّة" والهواجسِ الدافعة إلى الانزواء أو الهروب أو التخلّي عن الأرض والتاريخ، والدعوة لعيش التنوّع والاندماج، مدركين أن أمام الأقليّات التي تتكوّن منها دولُ المنطقة، ولبنانُ واحدٌ منها، ثلاثةَ خياراتٍ، لا رابعَ لها: إمّا تماهي الأقلية مع الأكثرية والذوبان فيها، وهذا ما نرفضُه وترفضه جميعُ الأقليّات، أو تحالفُ الأقليّات مع بعضها في مواجهة الأكثرية، وهذا ما لن يكون عمرُه طويلاً إذا ما حصل، أمّا الخيارُ الثالث والأنسب فهو النضال من أجل بناء الدولة المدنية الوطنية الجامعة، التي تحترم الدين ولا تُحكَمُ باسمه.
إنّ خيار الدولة الوطنية الجامعة القائمة على أُسس الإيمان والعدالة هو الخيارُ الأنسب لحماية التعددية ومواجهة التحديات، ولا سبيل إلى ذلك إلّا بالحوار العقلاني، على قاعدة احترام الدين، وليس بالثورة عليه، وخلقِ ثقافةٍ حوارية بين المواطنين تحترم الخصوصية والتنوع، وبالتأكيدِ على حقّ كلِّ الطوائف بأن تعيشَ معتقداتها وتمارسَ طقوسَ عباداتِها، بحريةٍ لا تتعارض مع حرية الآخرين، وبالعمل الجدّي للانتقال من الحالة الطائفية في أوطاننا إلى الحالة الوطنية، من خلال عملية تغييرٍ فعلية، تبدأ من النفوس، لأنّ الهويات الذاتية الطائفية أصبحت متجّذرة على حساب الهوية الوطنية، وفي ذلك تكريسٌ للمذهبية والفئوية والشخصانية.
من هذا المنطلَق، تأتي أهمية الحوار الذي تدعو إليه القياداتُ الروحية والسياسية المعتدلة، والتي اكتشفت، "بعد جهدٍ جهيد"، على حدّ تعبير أحد كبارهم، أن الوسطية والاعتدال هما طريقُ الخلاص، وأن التطرّف والحدّة لا ينفعان، وأن الحوار هو المطلوب، داخل الطوائف وبين الطوائف، وفي أوساط مختلف القطاعات، وهو ما يتطلب مناخاً ديمقراطياً، والديمقراطيةُ ليست تنظيراً فحسب، بل إنها فعلُ إيمانٍ ينطلق من الاعتراف بالآخر وبحقّ الاختلاف معه، وصولاً إلى إرساء قواعدِ الحياة المشتركة. المطلوب في مواجهة التحجر واللاديمقراطية، يكمن في الانفتاح والتكيّف مع البيئة التي يعيش فيها الجميعُ معاً، وخصوصاً الأقليات، وهو ما أشار إليه كمال جنبلاط يوماً، عندما دعا المسيحيين لكي يعترفوا بأنهم وديعةُ الحضارة الإسلامية في هذه المنطقة من العالم، وأن يتفاعلوا مع محيطهم الإسلامي بإيجابية، ليس بتخلّي المسيحية عن رسالتها، ولا أي مجموعة دينية أخرى عن خصوصيتها الدينية، واعتبارِها مسألة رجعية، بل بدمجها في الهوية المشتركة، والتفاعل في المجتمع العربي والإسلامي الواسع، دون عِقَدٍ من الاندماج والتفاعل، ودون ذوبان كلّي يُفقدُها هويتَها الذاتية؛ وهنا يكمن التحدي أمام الأقليات وأمام العالم الإسلامي والعربي، بما يتطلبه ذلك من دعوةٍ للأقليات للتكيُّف الواقعي مع المحيط، وللمسلمين لينفتحوا ويُظهروا وجهَ الإسلام الحقيقي، ويقبلوا التحدي الحضاري، ولنا جميعاً لكي نُقدّمَ خَيارَ الصوت الهادئ العاقل على خيار رفع الصوت في وجوه أهلنا ومواطنينا، وخيارَ الحوار البنّاءِ على خيار الصدام الهدّام وخيار تأجيج الصراع، وبذلك نحملُ معاً مسؤوليةً مشترَكة مشرِّفة ومتجددة لمجتمعاتنا العربية ولأوطاننا المشرقية.