تمكن اخيرا رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي من اتخاذ قرار بابدال الوزراء غير الأكفياء بتكنوقراط من اجل محاربة الفساد الذي يكاد يوصل بالبلاد الى الهاوية. وكانت ولادة تشكيلة حكومته بحلتها الجديدة اشبه بعملية قيصرية بعدما واجه لمدة اشهر مقاومة عنيفة من ممثلي المصالح الراسخة للأطراف المختلفة، الطائفية منها والعرقية، التي ترغب في الحفاظ على نفوذها وامتيازاتها.
كذلك من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي أظهر نفسه في البداية كحليف للعبادي، قبل ان يعود ويدفع باتجاه تغييرات أكثر تطرفاً في الحكومة ويهدد بالتخلص منها تماماًعبر الاعتصامات التي نفذها انصاره في محيط المنطقة الخضراء في يغداد.
ولم تكد تمض ساعات على تقديم العبادي الى البرلمان تشكيلة حكومية من التكنوقراط حتى قرر الصدر إنهاء اعتصام جماعته. وبات العراقيون ترقبون ما ستتمخض عنه عملية الإصلاح، التي يفترض أنها تعالج أمرين اثنين أنهكا البلد، الفساد والمحاصصة السياسية. التشكلية الوزارية التي قدمها العبادي، الخميس، حملت مفاجأة غير متوقعة، حيث رشح لحقيبة الخارجية الأهم بين الحقائب السيادية، الشريف علي بن الحسين الهاشمي، ضمن حكومة تكنوقراط تسعى لتحقيق رؤية الإصلاح المفترضة.
والشريف علي سليل آخر عائلة ملكية حكمت العراق، قضت في الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الكريم قاسم عام 1958، هو ابن الشريف الحسين بن علي، وأمه الأميرة بديعة بنت الملك علي بن الحسين الأول، وهي في الوقت ذاته خالة آخر ملوك العراق فيصل الثاني. ولم يكد يبلغ من العمر سوى سنتين حتى وقع الانقلاب لينهي ملكية استمرت نحو أربعة عقود.
وكان الامير علي الناجي الوحيد من العائلة حيث كان بين أحضان أمه التي تسللت به متخفية إلى خارج العراق، لينتهي به المقام في لندن التي حصل من جامعتها على شهادة الماجستير في مجال الأعمال المصرفية والاستثمار.
وعقب سقوط نظام صدام حسين عام 2003، دخل مضمار العمل السياسي داعياً إلى عودة نظام الحكم الملكي. وبحسب مراقبين ربما يكون اختيار الشريف علي بن الحسين، مؤشراً على انطلاق عصر التكنوقراط فعلاً، فهو على علاقة إيجابية مع كل العراقيين على اختلاف آرائهم السياسية والطائفية. ولم يدخل ضمن التحالفات السياسية التي شهدها العراق بعد الغزو الأميركي، ويرى محللون أن ترشيح الشريف علي وزيراً للخارجية، فيه دلالات ورسائل إيجابية للدول العربية الأخرى، بعدما اغضب الوزير الحالي إبراهيم الجعفري دول خليجية عدة مثل السعودية والإمارات، على خلفية موقفه من التصويت على "حزب الله" كمنظمة إرهابية، في جامعة الدول العربية، فضلاً عن مهاجمة الجعفري للإمارات، بسبب تصريحات وزير خارجيتها عما اسماه "جرائم مليشيات الحشد الشعبي". ويقول المتابعون للشأن العراقي ان عدداً كبيراً من الوزراء المرشحين لا يمكن تصنيفهم على أنهم ينتمون لأحزاب سنية أو شيعية، بل إن صفة الاستقلالية حاضرة لديهم، وهذا أهم ما في الأمر.
ويُعتبر عبد الرزاق العيسى، المرشح لمنصب وزير التعليم العالي، من الأسماء البارزة في التشكيلة الجديدة، وهو شخصية أكاديمية عراقية تقيم في العاصمة البريطانية لندن. كما أن علي علاوي هو أحد أعضاء مجلس الحكم المشكل عقب احتلال العراق في عام 2003، وهو ابن شقيقة السياسي الراحل أحمد الجلبي. أما وفاء المهداوي، فهي أستاذة في قسم الاقتصاد في الجامعة المستنصرية، وعلاء مبارك هو عميد كلية الطب في جامعة النهرين.
ووفقاً لمصادر متطابقة، فإن التشكيلة الحالية غير نهائية وهي خاضعة للتعديل من البرلمان، الذي يملك حق الطلب من العبادي استبدال أي شخصية منهم. ويلاحظ من التشكيلة الجديدة للحكومة، في حال إقرارها، أنّ غالبية الأسماء جديدة غير معروفة على ساحة العمل السياسي، ومن ذوي الاختصاص، فضلاً عن كون غالبيتهم غير مصنفين. كما يلاحظ أن حزب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي (الدعوة)، بات أبرز الخاسرين في تشكيل الحكومة الجديدة، على رغم أن رئيس الوزراء ينتمي لهذا الحزب. وفي حال التصويت بنعم على التشكيلة في البرلمان ، فيرجح ان يطاول التغيير في المرحلة الثانية وكلاء الوزارات ومديرو الهيئات العامة المستقلة والمؤسسات الحكومية كافة، أي نحو 100 منصب، على أن يُصار في المرحلة الثالثة، إلى تحويل المسؤولين عن ملفات الفساد إلى القضاء من دون تسييس، مهما كان موقع الشخص المتهم.
ويعتبر تغيير الطواقم العليا في الوزرارات امرا اساسيا لدعم الوزراء الجدد كون هذه الطواقم تعمل منذ سنوات طويلة وتتبع بالعادة أحزابا سياسية مختلفة غالبيتها دينية. ويرى عضو بارز في "التحالف الوطني"، انه في حال تم ذلك فأن "(رئيس الحكومة السابق نوري) المالكي، سيكون أبرز الخاسرين في التعديل الجديد". واوضح أن "رئيس الوزراء السابق وزعيم كتلة دولة القانون، سيفقد أكثر من 55 منصباً بالهيئات العامة والمستقلة، أبرزها البنك المركزي ومفوضية الانتخابات والمحكمة الاتحادية، التي كان يشغلها أعضاء ومقربون بحزب الدعوة".
والى الكتلة الصدرية الخصم اللدود للمالكي ، سارع القيادي في اتحاد القوى الوطنية (أكبر كتلة سُنية بالبرلمان العراقي)، صالح المطلك، الى تأكيد دعم كتلته لمرشحي التشكلة الوزارية الجديدة. وقال أن "الكتل السياسية التي سترفض الإصلاحات والتغيير الوزاري، هي من تتحمل اي تبعات خطيرة قد تشهدها الفترة المقبلة".
ومع ذلك فان مهمة هذه الحكومة في حال الموافقة عليها ليست سهلة ، نظرا الى صعوبة ايجاد حكومة تكنوقراط بعيدة عن تأثير الأحزاب الحاكمة عدا عن مشكلة انخفاض أسعار النفط ومرور البلد بأزمة اقتصادية حادة التي تنذر الوزراء بطريق شأئك امامهم. كذلك تخشى الأحزاب الشيعية الرئيسية وآخرين نيات خصمها الصدر، ومن بينهم منافسي العبادي في حزب الدعوة والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي الذين لا يحبذون تسليم مناصب قوية لـ "تكنوقراط مستقلين" قد يكون الصدر "اوحى" تسميتهم ضمنا بعد الضغوط الكبيرة التي مارسها على العبادي بالاعتصامات امام المنطقة الحصنة. وقد يحاججّ المجلس الأعلى وخصوم العبادي في حزب الدعوة كذلك ممثلو الاكراد بأنّ اي تعديل في تركيبة الحكومة يجب أن يحافظ على التوازن الأساسي في النظام، وإلا سيتعيّن على العبادي ترك منصبه أيضاً ويعاد تشكيل حكومة جديدة من البداية. كما تحاول بعض الشخصيات الشيعية، من بينها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ووزير النقل باقر جبر الزبيدي، بناء جسور جديدة مع صانعي السياسة في الولايات المتحدة لتظهر أسمائهم كبديل معقول للعبادي.
ولكنّ الفارق بين الصدر ومنافسيه هو أنهم جهات فاعلة ضمن المؤسسة وليسوا مهتمين بإبطال النظام القائم. ومن غير المرجح أن تكون طهران راضية عن حكومة يهيمن عليها الصدرولو بطريقة غير مباشرة، نظراً الى تاريخ الصراع على السلطة بين الصدر ووكلاء مقرّبين منها مثل"عصائب أهل الحق" و"فيلق بدر" وازدراء الصدر لتسلط ايران عموما. اما اذا اراد العبادي ان يظل ممسكا بالعصا بالوسط فعليه عدم اغضاب المجلس الأعلى وحزب الدعوة، وفي الوقت نفسه منع الصدر من التسلل إلى العملية وادعائه بأنه يضطلع بدور ضخم في بغداد. ومع ذلك سيكون الطريق نحو المستقبل مضطرب وغير متوقع.
لكن في حال إقرار التشكيلة الحكومية الجديدة، سيكون العراق قد وضع نفسه على سكة الخروج من الاصطفاف الطائفي والتقاسم الوزاري بين الأحزاب، للمرة الأولى منذ فترة طويلة ..فمتى يحين دور لبنان الذي كان سباقا في هذا المجال؟
النهار