رغم أن صحيحي البخاري ومسلم لو أراد الباحث أن يطبق أصول علم الدراية عليهما ويستقصي أحوال رواتهما لوجد الكثير من الأسانيد الضعيفة حسب الأصول التي وضعوها لأحوال الرجال أكثر من الأسانيد الموثوقة ،إلا أن أهل السنة قاموا بخطوة متقدمة عندما صححوا مروياتهم ونقوها من المكذوب والمدسوس وهذه الخطوة تستحق الإشادة والتنويه فلقد كان لديهم الجرأة في ذلك .وهذا ما لم نره في كتبنا ومروياتنا الشيعية ، فهل من المعقول أن نرى روايات ما أنزل الله بها من سلطان ، لا يقبلها عقل ومازالت منذ ألف وأربعمائة سنة في كتبنا دون تمحيص أو تدقيق ..؟!
ألف وأربعمائة سنة ولم نر المؤسسة الدينية الشيعية تعمل على تنقية الصحيح من هذا الموروث إلا على المستوى الفردي لبعض المتخصصين في هذا المجال ، وقد خرجت عدة محاولات في هذا الإطار ، كان أهمها محاولة الميرزا أبي الحسن الشعراني(المتوفى عام 1973م) حيث ألف كتابه "المدخل إلى عذب المنهل" ، وفيه تحدث عن أهمية تنقية الآثار من أجل المحافظة على المذهب الشيعي ، وقد وصل الشعراني بقناعته إلى أن خمس المرويات في كتب المذهب في عداد الأحاديث الموضوعة على الأئمة(ع) . وقد ألف الإمام محمد الخالصي (1888_1963) مواليد مدينة الكاظمية عدة كتب لرد البدع والخرافات ودافع عن الإسلام الصحيح وعقائده الأصيلة ، وجاهد جهادا مريرا ضد الفرق المغالية المنحرفة التي أوجد بعضها الإستعمار وعملاؤه . ومن أهم كتبه"علماء الشيعة والصراع مع البدع والخرافات الدخيلة في الدين". كما أن من أهم المشاريع التي ظهرت في نفس هذا المسار مشروع الدكتور الشيخ محمد باقر البهبودي ، اهتم الشيخ البهبودي بمشروع تنقية التراث ، وقام بخطوة علمية جريئة أثارت لغطا وردود أفعال كبيرة ، حيث تبنى غربلة أحد أهم مصادر الحديث في المذهب الإثني عشري وهو كتاب الكافي للكليني ، فقام الشيخ البهبودي بتحقيق هذا الكتاب وتنقيته ، مما بدا له أنه ضعيف ، فكانت النتيجة التي توصل إليها هي صحة ربع الكتاب فقط (4428 من أصل 16194) كما أخرج كتاب صحيح الميزان في التفسير للطباطبائي ، وحقق 45 مجلدا من كتاب بحار الأنوار للمجلسي .
الجدير بالذكر أن الشيخ البهبودي عندما أصدر النسخة الفارسية من كتاب"صحيح الكافي" قام صاحب المطبعة وبضغط من المراجع بتغيير عنوان الكتاب إلى"زبدة الكافي" كما قام المرجع منتظري وكان خليفة الإمام الخميني وقتها باستدعاء الشيخ البهبودي وأمره بسحب جميع النسخ من الأسواق بما فيها النسخة العربية حسب ما ذكره الشيخ جعفر السبحاني في حوار مع "صحيفة كيهان" . وفي مسار تنقية التراث وتصفيته ،يجب الإشارة إلى مشروع آية الله العظمى الشيخ محمد آصف محسني القندهاري الأفغاني(المولود 1936م) وهو شخصية شيعية معاصرة بارزة ، تعلم في العراق وإيران . لقد أثار آية الله محسني زوبعة كبيرة بعد إصداره كتاب"مشرعة بحار الأنوار" عام 2000 م ، وقد اختار آية الله محسني "بحار الأنوار" كمادة للدراسة ،لأنه رأى أن هذا الكتاب هو المصدر الأساسي للخطباء والوعاظ الذين يشاركون في صناعة الرأي العام بين الشيعة . وفي سياق تنقية الموروث الديني يمكن أن نذكر مشروع آية الله نعمة الله صالحي نجف آبادي ، وهو عالم دين معاصر من أصفهان ، وقد أثار ضجة في السبعينيات الماضية ، عندما أصدر كتابه" الشهيد الخالد" ،حيث صدم الرأي العام الشيعي عندما تبنى نفي علم الإمام الحسين باستشهاده في كربلاء ، مما أدى إلى ظهور ردود كثيرة عليه . وفي عام 2003م ،أصدر صالحي كتاب "الأحاديث الموهومة في مجمع البيان" ومعه أربع مقالات في التفسير ،ولم يتردد صالحي في تضعيف الصيغة الرائجة في الأوساط الشيعية لحديث الكساء ، وهي المذكورة في كتاب مفاتيح الجنان. وفي مسار تنقية الموروث لا بد ان تذكر أسماء أشخاص لهم جهودهم في مسارات الإصلاح وغيره مثل آية الله البرقعي حيث تبنى نقد أحاديث الكافي سندا ومتنا . ولا بد لنا أن نذكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر حيث أشار في بعض رسائله إلى أحد تلاميذه أن يكتب كتابا في الصحيح عن أهل البيت(ع) .
ومن رجالات الإصلاح في الشعائر الحسينية السيد محسن الأمين صاحب "أعيان الشيعة" وقد أثيرت ضجة كبيرة حول دعوته الإصلاحية قبل ربع قرن ولكنه صمد لها وقاومها باسلا فلم يلن ولم يتردد رغم نعتهم له بالزنديق وبالخروج على الدين . ولن يغيب عنا السيد محمد حسين فضل الله حيث كان سماحته(رضوان الله عليه) يواجه موضوع الغلو والخرافة وقضى عمره يريد تخليص المذهب من الشوائب التي علقت به ومن موروثاتنا المغلوطة ، لذا عانى ما عاناه حتى وصل بهم الأمر أنهم كفروه ،وضللوه وأخرجوه من المذهب ورغم ذلك كان جبلا لم تهزه عواصف تخلفهم وغلوهم وجهالتهم . ونذكر آية الله السيد كمال الحيدري فقد أقصي عن برنامجه"مطارحات في العقيدة" الذي تعرضه قناة الكوثر ، حينما أنكر تفاصيل روايات الهجوم على بيت فاطمة (ع)وإشارته إلى ضعف كتاب"سليم بن قيس الهلالي" الذي بنى عليه الشيعة بعض العقائد كما وأنه قال :"إن الكثير من الروايات الشيعية مدسوسة ومنقولة إلينا من كعب الأحبار من اليهودية والنصرانية والمجوسية" وقد أبعد عن البرنامج عندما تألق السيد كمال في سماء العلم والفضائل وخشي أن يلقي بظلاله على الآخرين وبالتالي تقع الكارثة إذ وصف بمرجع ديني أو مقلد ، ويشكل بالتالي خروجا على نظام الفيتو في شبكات تعيين المرجع والمرجعية خاصة وأنه أصبح نجما إعلاميا ورقما علميا محيطا بكل العلوم القديمة والحديثة ولم ينحشر في زاوية الحلال والحرام والفقه والأصول وإنما توسع إلى علوم الفلسفة والعرفان والحديث والتفسير وغيرها . وأخيرا وليس آخرا العلامة المحقق الشيخ حسين الراضي (مواليد الإحساء 1951م) إذ قام ببحوثات علمية مهمة أهمها "زيارة عاشوراء في الميزان" و"حديث الكساء الموضوع" ولا زال يغني المكتبات بفيض علمه وغزارة تحقيقاته .