العيش معا هي المسألة أذن، في مواجهة من يؤلبون كثرا من بيننا للموت معا أو مواجهة، نجتمع هنا بدعوة كريمة مشكورة من مؤسستي /كونراد اديناور/ و"المركز العربي للحوار والدراسات" للبحث في مواصفات وشروط الحياة، فيما آخرون، يزينون لأبنائنا محاسن ميتة موعودة وثمارا مشتهاة، لوجود آخر بعد الموت. على ضفة أولى يصنع الأحياء ويتدبرون مستقبلا يعيشون فيه هم وغيرهم، وعلى ضفة أخرى يرسم الاموات مستقبل جماعاتهم ومن تمثل خياراتهم.
التعددية تبدوفي ظروف المنطقة واحداثها، مطلبا لجماعات اقلاوية يجري انتهاك حقوقها ووجودها، ويتم اقتلاعها من أوطان رعتها مئات السنين وعشرات القرون، والمطلب المشروع هنا يتدرج من حفظ الوجود تصاعدا الى حفظ الحقوق وصون الخصوصيات والتمايزات والثقافات، وصولا الى توازن المصالح والخيارات بين الجماعات واكتساب الضمانات.
والتعددية هذه، ان بقيت مرسومة على اسوار الجماعات العرقية والاثنية والطائفية، هي مأمولة ومشروعة ومفيدة، لكنها قد تعاني من عيبين جوهريين يجعلانها منقوصة وذرائعية، العيب الاول ان لم تخترق كيانات الجماعات لتصل لحرية الافراد في الاختلاف عن جماعاتهم وصولا الى حقوق المواطنة ، اما العيب الثاني فهو حين تختصر الجماعة الاقلاوية دعوة التعددية كملف خصومة واستعداءا لجماعة الاكثرية وتقترن باستدراج حليف خارجي للاستقواء به على الاكثرية الوطنية. التعددية هنا وهنا فقط تصبح قيدا على حرية الاكثرية وخياراتها، وقد تتحول بفعل الاستقواء بالخارج الى استبداد اقلوي بمصالح الوطن والمجتمع.
التعددية بتعابير أخرى مربوطة بالحرية : حرية الفرد كما حرية الجماعة، حرية الفرد في الخروج على جماعته وحرية الجماعة الاقلاوية بالخروج عن الجماعة الاكثرية، وسقف حرية الفرد هو قانون الدولة وسقف حرية الجماعات هو سيادة الدولة على حدودها وداخل حدودها. عندما يستتب ميزان الحرية في المشروع السياسي تصبح التعددية حاجة لجماعة الاكثرية قبل ان تكون مطلبا اقلويا، لانها ضمانة الاكثرية ليكون مشروعها رحبا، تضمينيا غير اقصائي، يستطيع ان يستدرج كل مكونات المجتمع للمشاركة الفاعلة والاغناء المتبادل. في الواقع العربي اليوم اجندات ثلاث:
1. الاولى الربيع العربي وهي معركة خاضتها وتخوضها شرائح اجتماعية حديثة ، بعد أن فشلت معظم الدول العربية في تحقيق تنمية وطنية داخل دولها، وفشل النظام العربي الرسمي مجتمعا في اقامة شراكة عربية اقتصادية وسياسية، وظهرالعجز العربي عن مواجهة تداعيات القضية الفلسطينية و تعثرت عملية السلام، ادى كل ذلك، في فضاء اقتصادي معولم وفي ظل ثورة الاعلام والاتصالات الى انهيار انظمة الاستبداد، فانطلقت موجات الربيع العربي المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة الانسانية سلميا وعبر الوسائل والآليات الديموقراطية، ونجحت في تونس واليمن ومصر وليبيا في بدء مسار التغيير والتحول الديموقراطي، لكن الضعف البنيوي للقوى الديموقراطية وعجزها عن تنظيم وتوحيد قواها، اضافة لتدخل فاعل وقوي لدول الاقليم من السعودية الى قطر الى دولة الامارات العربية الى ايران وتركيا، افسح المجال لتمكين قوى الثورة المضادة، اي أحزاب الاسلام السياسي والسلطات الامنية المستندة للجيوش ، من الانقلاب على الربيع وتصدر الساحة السياسية ، وقد انقلبت قوى الثورة المضادة على الربيع العربي، مرة بالجيش باسم الامن والاستقرار، وثانية بالميليشيا باسم الدين، وثالثة بالاثنين معا كالحالة السورية.
2. الثانية الفتنة الشيعية السينة التي تفجرت بعد الاحتلال الاميركي للعراق واعتماد ايران لتوسيع نفوذها الاقليمي على زعزعة استقرار دول المشرق العربي والتدخل في شؤونها، وتدهور العلاقات السعودية- الايرانية في ازمات اليمن والعراق وسورية ولبنان، فانفجر العنف المسلح بكل قوة و ادى الى انهيار الدولة الوطنية في العديد من الدول العربية والى تنامي قوة الجماعات السياسية الدينية المتطرفة والارهاب المسلح، كما ادى الى تشريع الابواب امام التدخلات الاقليمية والدولية،.
3. الثالثة انخراط دول اقليمية وعالمية في استراتيجية المعركة ضد الارهاب بعد صعود النزعات الاسلامية المتطرفة شيعية وسنية على السواء واعلان الخلافة في الدولة الاسلامية ودولة الامامة بسيطرة انصار الله على مجمل اليمن، وبعد استهداف العديد من العواصم العالمية باعمال ارهابية. الاجندات متداخلة الاحداث والفصول. لكن القضايا منفصلة، مستقلة من حيث المفهوم والاهداف، المشهد يبدو مغمورا بالدماء، خلال بضع سنوات، تبدلت الأولوية الاقليمية حيث كانت القضية الفلسطينية توحد العرب في مواجهة اسرائيل، لتصبح صورة المنطقة اليوم صراعا داخليا، تختلط فيه معركة الحرية في مواجهة الاستبداد بالصراع على النفوذ الاقليمي،ويتهدد مصير الجماعات ووجودها بانهيار الكيانات السياسية واعادة تشكيلها، وأصبحت سياسة الهيمنة التي تمارسها ايران على دول المشرق العربي تثير عداء ينافس العداء الذي تحمله شعوب المنطقة لاسرائيل. وكان من نتيجة هذه السياسىة، تفاقم الاستقطاب الطائفي والمذهبي وتجذير منطق العنف، فتوالت عمليات التطهير العرقي المتبادل وشهدت المنطقة اعلى معدلات التهجير الجماعي والنزوحي السكاني منذ النكبة الفلسطينية و تنامت قوة الجماعات السياسية الدينية المتطرفة والارهاب المسلح.
من العراق كانت البدايات: اعتى انواع أنظمة الاستبداد، اوقح تجارب الاحتلال لجيش أميركي في دولة عربية، أوضح مشاهد الانقسام الاهلي والطائفي الدموية، اول نجاحات ايران في مدّ نفوذها والتحكم بسياسة وموارد دولة عربية . اوسع جغرافية تقام عليها دولة الخلافة الاسلامية بعد قرن مضى على نهاية الخلافة العثمانية، اعلى مستوى فساد لسلطة منتخبة في العالم، مع ذلك ما زال العراق يصفعنا كل يوم باحداث جديدة، وها هي جموع التيار الصدري تجتاح المنطقة الخضراء آخر مظاهر وجود دولة في العراق.
بالاحتلال والميليشيات والتدخل الايراني تحول سنة العراق الى اقلية يجري تهجيرها كما المسيحيون والازيديون، وبسياسة الارض المحروقة والتدمير المنهجي والتطهير العرقي والارهاب الاصولي واعادة رسم حدود الدول يتم اليوم تغيير طبيعة سورية وتبديد الاكثرية فيها.