استكمل المحامي العام التمييزي شربل أبو سمرا، أمس، التحقيق في قضية سرقة مليارات الليرات في قوى الأمن الداخلي، التي يشتبه في تورط ضباط ورتباء وعناصر بارتكابها.

فاستمع أمس إلى إفادة المقدم م. ق. و١٤ رتيباً، أبرزهم المؤهل أول خ. ن. أمين سر القائد السابق لوحدة الإدارة المركزية العميد محمد قاسم، ورئيس لجنة المشتريات في قوى الأمن المؤهل م. ج. وبمواجهة العميد قاسم مع خ. ن، أفاد الأخير بأنّه كان «أمين سر العميد» وأنّ قاسم وضع في تصرفه ثلاث سيارات وعدداً من العسكريين لمواكبته (المؤهل) وزوجته. وأكّد أنّ كل ما كان يفعله كان بناءً على طلب قاسم وبعلمه.
وأفاد رئيس لجنة المشتريات، خلال التحقيق، أنّ قاسم أوكل إليه التواصل مع شركات الأدوية والعسكريين المتقاعدين، وأنه كان يدفع له إكراميات مقابل ذلك. أما بقية الرتباء، فذكروا أنهم كانوا يعملون بأوامر من أمين السر. وذكرت المعلومات أن القاضي أبو سمرا خيّر العميد قاسم بين الاعتراف أو مواجهة الرتباء واحداً تلو الآخر، وأنّ العميد استمهل حتى الغد للتفكير قبل الإجابة. كذلك طلب أبو سمرا توقيف المقدم ق. مع تسعة رتباء. وأرجأ الاستماع إلى إفادة العقيد أ. ع. إلى جلسة اليوم.
وكان أبو سمرا قد استمع في اليوم الأول من التحقيقات إلى إفادات كل من المساعد الأول لرئيس وحدة الخدمات الاجتماعية العميد ع. خ. والعقيد ن. ف. والعقيد ن. ب. والمؤهل أول خ. ن. والمؤهل أول م. ج. والمؤهل أول ا. غ. ويتوقع أن يبلغ عدد العسكريين الذين «سيُجرجرون» الى التحقيق حتى يوم غد إلى نحو 120 بين شاهد ومشتبه فيه.
كيف بدأت حكاية كشف ملف الفساد الأضخم في تاريخ المديرية؟
قبل نحو سنة، وصل إلى قيادة المديرية «كتاب معلومات» يفيد بالاشتباه في تلاعب نحو سبعة عسكريين بالمساعدات المرضية. لكن التحقيق الروتيني لم يُؤدّ إلى كشف جسامة ما يجري، فتقرر معاقبة العسكريين مسلكياً فقط. إلا أن شعبة التحقيق والتفتيش التي يرأسها العميد عادل مشموشي قررت متابعة التحقيق والتوسّع فيه. وبذل ضبّاطها جهوداً استثنائية، واتخذوا من العسكريين السبعة طرف الخيط الذي أدى إلى تهاوي الشبكات المؤلفة من ضباط ورتباء وعناصر احترفوا سرقة مليارات الليرات من حقوق زملائهم. إذ قدرت الأموال المسروقة في ملف المساعدات المرضية فقط بنحو 36 مليار ليرة. وتبيّن أن بين المشتبه فيهم مجموعة ضباط، على رأسهم رئيس وحدة الإدارة المركزية وأحد ضباط شعبة الشؤون الإدارية (المقدم م. ق.)، إضافة إلى عشرات الرتباء والعناصر. فكيف كانت تحصل السرقة؟
تكشف مصادر مطّلعة على التحقيق لـ «الأخبار» أنّ عمليات الاحتيال والسرقة كانت تحصل على أوجه مختلفة في الملف نفسه. إحدى هذه الطرق، اختلاس أموال المساعدات المصروفة للمتقاعدين، بعد ما اصطُلح على تسميته بـ«فشل توطين» منذ سنوات، بموافقة قيادة المديرية ــــ من باب «تمشية الحال» ـــــ على تحويل أموال المديرية إلى حساب ضابط واحد هو المقدم ق.، ليتولّى توزيعها على مستحقيها. بناءً على ذلك، كان المقدم يُعدُّ جداول اسمية لعشرين متقدِّماً بطلب مساعدة مرضية، وعندما تُصرف له، يدفع لعشرة عناصر فقط، بذريعة أنّ طلبات البقية رُفضت أو لم يأت الردّ عليها بعد.


قدّر المحققون المبلغ
المسروق في ملف المساعدات المرضية وحده بـ ٣٠٠ مليون ليرة شهرياً على مدى ١٠ سنوات


وقد تطوّرت السرقات لاحقاً بأُطر مختلفة، فعمد الضباط والرتباء المتورطون إلى تزوير اللوائح الاسمية ودس أسماء عسكريين متوفين أو متقاعدين منذ زمن طويل. وكان المتورطون يقنعون عسكريين بالتقدّم بطلبات لمساعدات مرضية، على أن يتقاضوا ثلثي قيمتها. وبعد تحصيل «الغلة»، كانت تُقسّم على المتورطين ومسهّلي أمورهم و»الساكتين» عنهم. وقدّرت مصادر التحقيق المبالغ المسروقة في ملف المساعدات المرضية بنحو ٣٠٠ مليون ليرة شهرياً على مدى 10 سنوات.
وقد حرصت شعبة التحقيق والتفتيش على إحاطة التحقيقات بسرية تامة، فتمّت جدولة الملفات، وحوِّلت «الداتا» من مطبوعة إلى إلكترونية، قبل بدء التوقيفات. ولمّا تبيّن وجود قرارات بصرف مساعدات مرضية مفقودة، طلبت الشعبة من المقدم ق. إحضارها، لكنه كان يماطل، فقرر رئيس الشعبة العميد مشموشي دهم منزل المقدم، حيث عُثِر على صناديق من الوثائق المزورة التي تُثبت تورّطه. كان الهدف إجراء مقارنة دقيقة بين طلبات المساعدات المرضية، وقرارات صرف قيمتها، إضافة إلى التدقيق في تواريخ تقديم الطلبات وأسماء الضباط والعناصر الذين يقبضون سنوياً. أُحصيت الأسماء والأعداد ليُستدعى نحو ٦٠٠ عسكري بين ضابط ورتيب وعنصر بصفة شاهد ومشتبه فيه. وأدت مواجهة هؤلاء بالوثائق والأرقام الى وضع نحو 400 منهم في خانة الشبهة. وكشفت مصادر مطّلعة على التحقيقات أنّ جميع هؤلاء اعترفوا بما أُسنِد إليهم «ولم يكن لديهم مجال للإنكار».
ملف المساعدات المرضية كرّ سبحة ملفات الفساد. فتحت شعبة التحقيق والتفتيش تسعة ملفات فساد ليتكشّف وجود شبكات، مؤلفة من ضباط ورتباء وعناصر، مرتبط بعضها ببعض، ومتوزعة على معظم شعب المديرية. بدأ التحقيق في مصلحة الآليات والأبنية والمالية. قبلها كان التحقيق يُستكمل بصمت في ما عُرف بـ «فضيحة المازوت» داخل المديرية التي كان بطلها المقدم أ. ب. الفضيحة يومها كشفها مواطن مدني أبلغ ضباطاً في الشعبة بوجود تلاعب في عدّادات المازوت. وتوصّلت التحقيقات في هذا الملف إلى تقدير السرقة بما يفوق المليار ليرة، فيما لا يزال الضابط المشتبه فيه موقوفاً في انتظار إعادة المبالغ المسروقة. وفي مصلحة الآليات والأبنية، اشتبه في عدد من الضباط والرتباء والعناصر، عُرف منهم العقيد ن. ب. والعقيد ع. خ.
كذلك فُتح ملف التلاعب بالدرجات العسكرية والرواتب، وحُقق مع نحو ستين عسكرياً، اشتُبِه في تورط ١٤ منهم. وكان هؤلاء يعرضون على العسكريين الاستحصال على مساعدة اجتماعية، مشروطة بنيلهم ثلثيها. لكنها في الحقيقة، لم تكن مساعدة اجتماعية، بل كانوا يتلاعبون بالدرجة العسكرية للعسكري من دون علمه، فيحصلون على ملايين الليرات فروقات سنوية في الراتب. كذلك بيّنت التحقيقات أن المتورطين كانوا يسرق بعضهم بعضاً أيضاً. فعلى سبيل المثال، رغم توافق الضباط على نسبة مقطوعة من أرباح قطع السيارات وفق اتفاقٍ مبرم من تحت الطاولة في ما يتعلّق بآليات المديرية، كان الرتباء يطلبون من تجار قطع السيارات رفع سعر القطعة 10 في المئة. نسبة تضاف إلى حصص أرباحهم. لم يتوقف الجشع عند حد. عمدت شبكات النصب والاحتيال داخل المديرية إلى ابتزاز العناصر لتسيير معاملاتهم حتى في تلك التي تتعلق بالمعدات الطبية للمرضى من ذوي العسكريين.
في هذه الملفات استُدعي ضباط ورتباء وعسكريون متقاعدون للمثول أمام المحققين، باستثناء العميد قاسم الذي طلب إبلاغه عبر القضاء. تمهّلت المديرية لتُرسل كتاباً خطياً إلى قاسم تطلب فيه الإجابة عن مجموعة من الأسئلة، لكنّ الأخير «ردّ بما يُشبه الشعر متحدثاً عن تضحياته طوال سني خدمته في سبيل المديرية»، بحسب أحد الضباط المكلفين التحقيق. كان هناك رأيان داخل المديرية، أحدهما يقول بضرورة إحالة الملف على القضاء، والثاني يتخوّف من التشهير بسمعة المديرية. لكن الاتفاق كان على ضرب مكمن الفساد.
تسود المديرية اليوم حال من التخبط. ردود فعل متناقضة ينقلها أبناء المديرية. يعبّر معظم العسكريين عن الارتياح لأنّ المال المسروق مالهم. ويذهب بعضهم إلى أن خفض المساعدات المدرسية إلى 50 في المئة (أقل من باقي الأجهزة الأمنية) مرده عمليات الفساد هذه، علماً أنّ نسبة المساعدات المدرسية التي ستُدفع العام الجاري لم تحدد بعد. في مقابل هؤلاء، يشير آخرون إلى مظلومية تطاول أبرياء، ولا سيما أولئك الذين أوقفت ترقيتهم، بعد وقف ترقيات رتباء لوجود موقوفين حان موعد ترقيتهم، وربط الترقية بالتحقيقات. ويدعو هؤلاء الى إقرار الترقية، وإذا تبيّن أن لا علاقة للموقوفين بملفات الفساد، تضاف أسماؤهم إلى جداول الترقية لاحقاً.

 


... حيث يُحجم الآخرون

اللواء إبراهيم بصبوص، الضابط الذي يعمل في الظلّ، بدأ عمله على رأس قوى الأمن الداخلي بالوكالة، في نيسان 2013. بعد عام، صدر مرسوم تعيينه بالأصالة، فألقى كلمة أشبه بـ«خطاب قسم». تحدث ابن بلدة داريا في كلمته عن تطبيق مبدأ الثواب والعقاب قائلاً: «كل عنصر يتميز بعمله سنكافئه ليكون مثالاً لغيره، وكل مقصّر أو فاسد سيعاقب من دون شفقة ورحمة، وليس له مكان في المؤسسة». وختم: «لدينا في المؤسسة ضباط وعناصر شرفاء ويتمتعون بضمير مهني، القلة القليلة منهم قد يكونون فاسدين أو مقصّرين وعلينا اجتثاثهم». وبالفعل هذا ما يحصل اليوم. فُتحت أبواب مديرية قوى الأمن الداخلي على مصاريعها، بعدما اتّخذ الرجل القرار بمكافحة الفساد المتجذّر من العهود السابقة. بصبوص الذي يكتفي براتبه الشهري، يُحرِّم على نفسه صرف المخصصات السريّة الممنوحة للمدير العام، ويصرفها على المديرية، مخالفاً بذلك سيرة سابقيه من المديرين العامين الذين كانوا يعتبرونها حقّاً مكتسباً يصرفونها على احتياجاتهم الشخصية. ورغم كل ما تقدّم، فإنّ المدير العام حزين. يُحزنه تداول اسم المديرية إعلامياً في قضايا فساد. ورغم غرض الإصلاح، إلا أنّه يرى أنّ ذلك يسيء اليها ويهشّم صورتها أمام المواطنين أكثر مما هي عليه. يعلم بصبوص أن شكوى المواطنين من المديرية في الشكل العام مردّها التماس اليومي المباشر معهم، لكنّه يأخذ على الإعلام تركيزه على الجانب السلبي، وتضخيمه أخطاء المديرية، وإهمال إنجازاتها. ويرى أن محاسبة الضباط الفاسدين شأن داخلي لا يجوز أن يخرج إلى العلن، لأنّه يسيء إلى ضباط المديرية الشرفاء، فيأخذهم الناس بجريرة لا يتحمّلون وزرها. لكنّ بصبوص لا ينظر إلى النصف المملوء من الكوب. مكافحة الفساد لن تهدم المديرية، لكنّها ستؤسّس لإعادة بنائها من جديد. والأجدر أنّ تفاخر قيادة المديرية بقيادتها التحقيقات لكشف الضباط والعناصر الفاسدين. فالمديرية بذلك تنظّف نفسها.
يوم مُدّد لبصبوص في قيادة المديرية، نُقل عن وزير الداخلية نهاد المشنوق قوله إنّ بصبوص وافق على تولّي المهمة مرغماً. مقولة ردّدها أحد ضباط مجلس القيادة، رغم صعوبة تصديقها للوهلة الأولى، نظراً إلى ما يحمله المنصب من مكاسب مالية ومعنوية. أداء بصبوص في المديرية اليوم يتكلّم عنه. صحيح أن الفساد في المؤسسة أوسع من الملفات التي يجري التحقيق فيها حالياً، وصحيح أيضاً أن الاشتباه في 400 رتيب وضابط بجرائم الاختلاس والسرقة والنصب والاحتيال لا يعني اقتلاع الفساد المستشري في مديرية تضم أكثر من 27 ألف عنصر، فالفساد في جهاز الشرطة اللبنانية بنيوي إلى حدّ ما، وإحالة ملفات الفساد على القضاء ليس سوى واجب يُعاقب القانون المتخلف عنه، إلا أن ذلك لا يحول دون الثناء على إقدام المؤسسة الموسومة بالفساد، حيث تُحجِم غالبية إدارات الدولة الأخرى.


... وغابت عنكَ «مزاريب»


«ينخر الفساد جسم المديرية المهترئ». عبارة تتكرر على لسان أكثر من ضابطٍ خبروا المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي لسنين طويلة. بالنسبة إلى هؤلاء، اجتثاث الفساد أمرٌ مستحيل. فمقولة المظلّة السياسية درعٌ واقية للضابط الفاسد، مسلّمة يكاد يُجمع عليها أبناء المديرية. وهنا يُستعاد الملف الذي اشتُهِر بـ«فضيحة المازوت»، فيسألون لماذا لم يستكمل هذا الملف حتى خواتيمه؟ يتحدثون عن ضبّاط ممنوع المساس بهم، من بينهم النقيب م. ر. ــ «زلمة اللواء أشرف ريفي» كما يُسمّونه ــ الذي اقترن اسمه بهذه الفضيحة المذكورة. ومع أن التسلسل الإداري يُحتّم أن لا تُصرف ليرة في المديرية من دون إذن الإدارة المركزية وشعبة الشؤون الإدارية، اكتُفي يومها بضابط واحد ككبش فداء. هدأت المديرية لأكثر من سنة، ثم هزّت فضيحة تورط العشرات من ضباطها ورتبائها أركانها مجدداً. فضيحة إنقاذية إن صحّ القول، لا سيما أنّ من اتّخذ قرار فتح الملفات هو المدير العام اللواء إبراهيم بصبوص، ورئيس شعبة التحقيق والتفتيش العميد عادل مشموشي. أعاد الرجلان دوراً مفقوداً لسنوات، فجاءت النتيجة سوق العشرات إلى مراكز التوقيف وغرف الاستجواب. انقسم ضباط قوى الأمن على أنفسهم. هل يتكتّمون على الفساد، خشية الفضيحة، لينفجر لاحقاً، أم يتّخذون قرار هدم أوكار الفساد؟ لم يكن خياراً سهلاً. البدء بمكافحة الفساد جاء متأخراً، لكن لا ضير إن كان التأخير، بحسب أحد الضباط المحققين، مردّه الترّوي لـ«تبكيل الملفات». يُراد لما يجري في المديرية أن يشكّل قاعدة يُحتذى بها.
بالنسبة إلى الجميع، «التسييس مقتل التحقيقات». لكن ظهور الملف إلى العلن كان ضرورة حتمية بسبب ضخامة الملف. وخشية التسييس شعورٌ رافق قيادة المديرية وضباطها في جميع المراحل ولا يزال، وكذلك الأمر مع المحامي العام التمييزي شربل أبو سمرا. يتخوّف هؤلاء من تدخّلات سياسية تُطيح الجهود المبذولة وتغطي على متورطين. بنظرهم، «أفضل ما في التحقيقات أنها لم تراعِ اعتباراتٍ طائفية أو سياسية، لذا دعوها تُكمل كما انطلقت». تكفي النتيجة الملموسة في المليارات المهدورة، لا سيما أن تحديد مكمن الخلل يُسهّل العلاج. والتوجّه اليوم يقضي بالضغط على المختلسين لإعادة الأموال المسروقة. ما تحقق، في أقل تقدير، هو إقفال «مزراب» هدرٍ بمليارات الليرات سنوياً. لكن «مزاريب» المديرية تكاد لا تُعدّ ولا تُحصى، وعلى رأسها الرشوة. فهل سيشملها التحقيق جميعها
؟