لم تعد تصريحات المكابرة التي تصدر عن المسؤولين الإيرانيين "معتدلين" كانوا أو "متشددين"، مدنيين أو عسكريين، قادرة على إخفاء حقيقة أن نفوذ إيران الإقليمي يتجه نحو مزيدٍ من الانحسار، نتيجة المتغيرات التي طرأت على المنطقة في الشهور الأخيرة. فإيران، وخلاف كل المزاعم والتحليلات التي كانت تنذر، أو تبشر، بحسب موقع قائلها؛ بتحولها إلى قطبٍ إقليميٍّ مهيمن، يمسك بخيوط اللعبة في ملفات المنطقة الكبرى، بعد توقيع الاتفاق النووي ورفع العقوبات، تستميت اليوم للاحتفاظ ببقايا نفوذٍ راكمته على مدى العقد الماضي. وتعكس تصريحات المسؤولين الإيرانيين، أخيراً، مدى ضيقهم بعملية التهميش التي يتعرّض لها دورهم ونفوذهم في المنطقة على يد الروس والأميركان على السواء، من ذلك زعم وزير الدفاع الإيراني، حسن دهقان، أن مساعدة بلاده الروسَ في سورية هي التي مكّنت النظام من الصمود وتجاوز الانهيار.
واقع الحال أن الاتفاق النووي، فضلاً عن طريقة إدارة ملفات الحلفاء، أدى إلى تحجيم النفوذ الإيراني، وليس إلى زيادته. فمن جهةٍ، حرّر الاتفاق واشنطن من القيود التي كانت تحد من حركتها في مناطق النفوذ الإيراني، خشية أن يؤدي ذلك إلى نسف المفاوضات حول البرنامج النووي. فواشنطن كانت تدرك أن الملف النووي لم يكن سوى أداة، تستخدمها إيران للحصول على اعتراف دولي، أميركي تحديداً، بنفوذها الإقليمي. ولو جرى تحجيم هذا النفوذ، قبل التوصل إلى اتفاقٍ حول البرنامج النووي، فالأرجح أن المفاوضات كانت ستنهار. لذلك، استخدمت واشنطن النفوذ الإقليمي جزرةً لتحفيز طهران على التخلي عن برنامجها النووي، قبل أن تسحبها. وكان لافتاً أن موافقة واشنطن على تدخل عسكري تركي في سورية لإنشاء منطقة "خاليةٍ من داعش"، تمّت بمجرد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، علماً أنها كانت ترفض، قبلاً، تأمين غطاءٍ لمثل هذا التدخل (لم يحصل طبعاً نتيجة دخول روسيا على الخط).
من جهة أخرى، أدى فشل إيران في إدارة ملفات الإقليم، خصوصاً التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية، إلى تعميق مأزق النفوذ الإيراني في المنطقة، كما استدعى أيضاً عودة الولايات المتحدة إليها، بعد أن كانت إيران فعلت ما في وسعها لإخراجها منها. فبعد أقل من ثلاث سنوات على الانسحاب من العراق، وتسليمه لإيران وحلفائها، اضطرت إدارة باراك أوباما إلى العودة إلى إصلاح ما أفسدته الإدارة الإيرانية الفاشلة في هذا البلد. ومنذ الصيف الماضي، أخذنا نشهد زيادةً ملحوظةً في عديد القوات الأميركية في العراق، ولم يعد الأمر يقتصر على وجود مدربين أو خبراء، كما تصر إدارة أوباما على وصفهم، تلافياً لإحراج حيدر العبادي أمام شركائه "الممانعين"، على الرغم من أنهم جاءوا على ظهر الدبابات الأميركية، بل بدأنا نشهد عودةً بالجملة للقوات القتالية الأميركية إلى العراق، خصوصاً بعد أن ثبتت استحالة الاعتماد على مليشيا "الحشد الشعبي" في مواجهة تنظيم الدولة، ليس فقط لأنها تستثير المجتمعات المحلية بتصرفاتها الطائفية، بل أيضاً نتيجة تبيّن عجزها الفعلي عن مواجهة التنظيم في ميادين القتال. حتى الإنجازات التي حققتها مليشيا الحشد، كما في معركة استعادة تكريت، ما كانت لتتم لولا الدعم الكثيف الذي أمّنه لها الطيران الأميركي.
وفيما تصر الولايات المتحدة على استبعاد مليشيا الحشد الشعبي من معركة الموصل، تتجه القيادة العسكرية الأميركية إلى اعتماد "نموذج الرمادي" لمواجهة تنظيم الدولة (أي اعتماد قوات من المجتمع المحلي، وتدريبها لتقاتل إلى جانب الجيش العراقي على الأرض، فيما تؤمن واشنطن غطاء جوياً، مع إسناد ناري ولوجستي، تقدمه وحدات كوماندوس أميركية، ما يعني في المحصلة خصماً من النفوذ الإيراني في هذا البلد).
بالمثل، أدى سوء إدارة إيران الأزمة السورية، ثم فشلها، ومليشياتها، في وقف تقدم قوات المعارضة في مناطق استراتيجية عديدة إلى استدعاء التدخل العسكري الروسي. وعلى الرغم من أن إيران هي من دعا روسيا إلى التدخل في سورية، إلا أن روسيا ليست جمعيةً خيريةً، وما كان لها أن تستجيب للطلب الإيراني، لولا أن مصالحها اقتضت ذلك، ولولا أن لها أسبابها الموجبة الكثيرة، ومنها تخوفها من حصول تفاهم إيراني-أميركي حول سورية، بعيداً عن روسيا ومصالحها.
وعلى الفور، بدأنا نشهد تراجعاً في النفوذ الإيراني في سورية، بما في ذلك بين القاعدة المؤيدة للنظام، التي أخذت ترفع صور فلاديمير بوتين، بدلاً من صور خامنئي وحسن نصر الله. بالتوازي، بدأ الروس عملية "قصقصة" لأجنحة إيران، سواء في مفاصل السلطة السورية أو على الأرض، من خلال إصرارهم على دمج مليشيا الدفاع الوطني التي تأتمر بأمر إيران وتتلقى رواتبها منها، في الجيش. وبالفعل، إذا استثنينا المناطق المؤيدة للنظام في حمص وريف حماة، فقد تم تحجيم دور هذه المليشيا لصالح الجيش الذي أخذ الروس يعملون على إعادة تأهيله، بعد أن بلغ حد الإنهاك. وقد كشف الفرنسيون، أخيراً، عن جرف الروس قاعدةً جويةً، كان الإيرانيون يعملون على تطويرها قرب حمص، وهو أمر أثار استياءً صامتاً في طهران.
دولياً، وبعد أن ظل الروس يصرّون على إشراك إيران في أي محادثات سلامٍ حول سورية، تمكّن الكرملين من تحويل الأزمة السورية إلى شأنٍ ثنائي روسي-أميركي، استبعدت منه كل القوى الأخرى، بما فيها إيران. أما أميركا التي لم تمانع في ضم إيران لمحادثات السلام حول سورية، فإنها لم تمانع في استبعادها أيضاً، اذ أعفاها الرئيس بوتين من حرج الحديث مع إيران حول سورية أمام حلفائها الخليجيين. وقد سرت، أخيراً، تقارير عديدة تفيد باشتداد الخلافات داخل إيران حول المسؤولية عن ضياع سنواتٍ من العمل والدعم والاستثمار، لتثبيت النفوذ الإيراني في سورية، قبل أن يأتي الروس ويخطفوه بضربة واحدة، في ضوء سعيهم إلى إقامةٍ طويلة في سورية.
وهكذا يبدو أن عهد تراجع أدوار القوى الكبرى الذي سمح لإيران بالتمدّد في المنطقة قد انتهى فعلياً، فقد اختطفت روسيا سورية من فم إيران، فيما عادت أميركا إلى تقاسمها العراق، أما اليمن فلم تربحه إيران أصلاً حتى تخسره، فأين هذا النفوذ الذي يتخوف منه خصوم إيران، ويتغنى به حلفاؤها؟ وأين هي العواصم العربية الأربع التي يزعم ملالي طهران السيطرة عليها؟