لا يغادر الشيخ صبحي الطفيلي منزله، وإذا ما حصل ذلك فإن حركته الجغرافية محدودة، ومع ذلك تراه، من خلال ما يقول ويصرح، قد تجاوز حدود القرية والبلد وبات لكلماته صدى عابر للحواجز.
وسائل الإعلام تتوافد باتجاهه علّها تفهم، من خلاله، مزاج الاعتراض الشيعي في لبنان ضد حزب الله وتواكب مسارات الجدل الجواني داخل الطائفة الشيعية في البلد.
للحديث مع الشيخ صبحي الطفيلي، الأمين العام الأسبق لحزب الله، توجّهت إلى دارته في عين بورضاي، تلك القرية البقاعية الواقعة على تخوم مدينة بعلبك الشهيرة.
ارتبط اسم عين بورضاي في السنوات الأخيرة بصيت الشيخ الطفيلي، فأصبحت محجّا لقاصديه المتحرّين للموقف والرأي المتمرد على النمطية التي لطالما تلتصق بالشيعة في لبنان.
لا يعارضُ الشيخ حزب الله من موقع الخارج عن الحزب، بل، ربما من رؤية ترى أن الحزب قد خرج عنه، فحين يباشر القول تلفتك العبارة السرّ “نحن في حزب الله”.
ما زال الشيخ صبحي الطفيلي يعتبر نفسه من أصول الحزب في منابته الأساسية الأولى. “أردناه حزب انفتاح، فتحوّل إلى أكثر الأحزاب انغلاقا”.
في نقده للحزب ما يشبه الغضب على من ضلّ الطريق، وفي ثنايا الاعتراض ما يشبه انتظار أن يتخلّص الحزب من ضلاله، ذلك أن راهن ومستقبل الشيعة في لبنان تشوّهه خيارات هذا الحزب ومزاجه.
يقيّد الشيخ الطفيلي “ملف قضائي” يعتبره الشيخ افتراء هدفه لجم حراكه. لا يستغرب الشيخ الطفيلي قرار الرياض قطع الهبات عن الجيش اللبناني بقدر استغرابه لقرار الرياض يوما منح هذه الهبات للجيش. فالشيخ يعتبر أن “قرار الجيش عند حزب الله يأخذه معه أينما ذهب”.
ويستهجن تذرّع الحزب بالغضب من إعدام الشيخ نمر النمر في السعودية بأنه لم يكن يحمل سلاحا، ويتساءل “وهل كان الشيخ خضر يحمل سلاحا؟”، في إشارة إلى الشيخ خضر طليس الذي قتل في اشتباكات حوزة عين بورضاي مع الجيش اللبناني وحزب الله (1998)، تلك الواقعة التي بُني عليها “الملف” المذكور ضده.
بين الشيعة وحزب الله
داع
في سؤاله عما يبدو أنه تماه للشيعة مع حزب الله ما يستفزه لردّ حازم حاسم “الشيعة ليسوا قطيعا”.
ويسهب في الشرح وتبيان الحجج وتقديم الأدلة لتفسير ما يبدو أنه التفاف للطائفة حول الحزب. وفي جعبته ما يعكس معرفة بالوعي الجماعي داخل الطائفة وعوامل الضغط الاجتماعي والثقافي والاقتصادي التي ما فتئ حزب الله يمارسها على الشيعة للاحتفاظ بالتصاقهم به.
يعتبر الشيخ الطفيلي أن خصوم حزب الله في لبنان والمنطقة لم يفعلوا إلا الاعتراف بحزب الله ممثلا وحيدا للشيعة. لم يؤمنوا بالتنوّع داخل الطائفة ولم يهتموا بأصوات الاعتراض الشيعي.
يذكّر بالتحالف الرباعي في انتخابات 2005 الذي سلّم بالثنائية الشيعية (الحزب وحركة أمل) ممثلا للشيعة في لبنان، فيما تمّ إهمال المعارضين الشيعة والابتعاد عن دعمهم.
يدفع الشيخ بقوة مقولة إن الشيعة ملتصقون بحزب الله، فهو يعتبر أن الخيارات مغلقة وأنه في الطائفة “إذا ما عُرف عنك أنك مناهض لحزب الله تتضرر مصالحك”.
ويؤكد أن الطائفة الشيعية لا تختلف عن بقية الطوائف اللبنانية في علاقتها بالبلد ومنطق الدولة والحكم، لأن للجميع “لهم نفس العقلية، ولأننا من نفس المدرسة ونفس نوعية الزعامة”.
لكن الشيخ وفي عرض لموقف الشيعة، يذكّر أنه أيام المارونية السياسية، “مارس المسيحيون سلطة الطائفة، وفي تلك الأيام كان هناك طبقة أولى وثانية وثالثة في لبنان. كان الجميع يرفع صوته بأن هذا خطأ ويجب إعادة النظر بهذا السلوك إلى أن وقعت الحرب الأهلية”.
ويستطرد الشيخ الطفيلي قائلا إنه “بالمنطق الطائفي الكريه، فالسنة اليوم قد يُعتبرون أنهم أصحاب حصّة الأسد، والشيعة قد يشعرون أنه لم يكن لهم دور لا في الجمهورية الأولى ولا في الجمهورية الثانية”.
مشاريع فتنة
ينتقد الشيخ الطفيلي اتفاق الطائف، ويرى أن “ما اعتبروه مكسبا حين أنيطت المسؤوليات بمجلس الوزراء، هو بلاء على البلاد”. ويروي في هذا المضمار أنه حين أتاه مبعوث الجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي إلى بيروت واجتمع به بصفته الأمــين العام لحزب الله آنذاك لتسويق الاتفاق، كان رده “إنكم جئتم بالفتنة (..) هذا ليس مشروع دولة، فكل وزير هو ربّنا الأعلى، ثم إنه يجب أن تكون هناك مرجعية تحسم مــادة الخــلاف”.
واعتبر الطفيلي أن ما قدّمه “الطائف” للشيعة هو أن “رئيس المجلس النيابي بدل أن تكون مصالحة الشخصية مهددة في كل عام أصبحت مهددة كل أربع سنوات، هذا ما جنته علينا جمهوريتهم الثانية، وإذا ما قارنا هذه الجمهورية بالجمهورية الأولى، رغم كل عيوب الجمهورية الأولى، إلا أنها كانت أقل شرا”.
ورأى الشيخ الطفيلي أن إيران فتحت أبوابها لشيعة لبنان لردّ “الحرمان” عنهم، وأن الشيعة بالتحاقهم بإيران، إنما “التحقوا بركب الطوائف الأخرى، فلكل طائفة داعم، وفي لبنان هذا أمر طبيعي”، وما يُنتقد به الشيعة في هذا المضمار، “بالإمكان توجيهه للطوائف الأخرى”، مستطردا، “وطبعا هذا خطأ”، معتبرا في هذا السياق أن طهران “تستثمر لدى الشيعة في لبنان من أجل مصالحها”.
وحين تساءلت عن ماهية المرجعية الخارجية للمسيحيين، وعمّا إذا كان بالإمكان مقارنة علاقة السنة بالسعودية بنوعية العلاقة التي تربط الشيعة بإيران، أقر الشيخ الطفيلي أن الأمر أصبح مختلفا في الزمن الحاضر لكن السياسة هي نفسها.
وأكد الشيخ الطفيلي أن “ليس كل الشيعة قطيعا، بل هناك أناس مفكرون يحترمون أنفسهم وعقولهم ويريدون الخير لأهلهم ويأبون أن يكونوا مجرد عملاء لهذا السلطان أو ذاك، لكن هذه الشرائح أُغلقت دونها كل الأبواب وحُوربت من أفرقاء الساحة وكأن هناك خلف الستار من لا يريد أن يزعج سياسة حزب الله وإيران”. واتهم الشيخ الطفيلي جهات محلية وإقليمية بأنها عملت بكل الوسائل “لكي لا يكون هناك صوت داخل الطائفــة إلا الصوت المرتبـط بإيران في لبنان”.
وغمز الشيخ الطفيلي من قناة خصوم حزب الله متسائلا “من الذي دفع الجنرال عون أن يذهب صوب حزب الله؟ ومن الذي دفع جعجع أن يقف مع عون؟ وماذا فعل وزير العدل (أشرف ريفي) حتى يتحول إلى شخص غير مرغوب فيه لأنه رفض أن تكون هناك مهزلة اسمها براءة ميشال سماحة”، مضيفا، “لمصلحة مَنْ كلّ هذا؟”، مجيبا، “هو لمصلحة سياسة إيران”.
التدخل في سوريا
وحول سؤال عمّا إذا كان موقف الشيعة في شأن سوريا متأثرا بموقف حزب الله أم أن للشيعة هواجس من مسألة تغيير النظام تدفعهم للوقوف معه، نفى الشيخ الطفيلي وجود هكذا هواجس وأكد أن “مزاج الشيعة في لبنان ضد النظام السوري وقد ذاقوا المرّ حين حكم نظام دمشق لبنان لمدة 29 عاما”.
وأضاف أنه “لو كان المزاج الشيعي غير ذلك لما استخدم القيّمون على حزب الله سياسة الخطوة خطوة لإخبارهم بحقيقة موقف الحزب في سوريا، وأنه شريك في قتل الشعب السوري”.
ولم يُسمّ الشيخ الطفيلي السيّد حسن نصر الله لكنه قال إنه، “في البداية تحدّث عن مساعدة بعض القرى لحماية أنفسهم، وكان الحزب في ذلك الوقت قد بدأ قتاله هناك، ثم قال لن تسبى زينب مرّتين، وهذه من مهازل الشعارات، أن يستحضر الذاكرة والعاطفة”. وتساءل الشيخ الطفيلي “لماذا تستعمل زينب وكربلاء في موضوع ليس له علاقة، لأنك لا تجرؤ على كشف الحقيقة”.
واعتبر الشيخ الطفيلي أن الادعاء بمواجهة التكفيريين هو لتبرير تدخل حزب الله في سوريا، ذلك أنه “حين بدأ حزب الله القتال في سوريا لم يكن هناك لا داعش ولا نصرة”.
وتساءل الطفيلي عمّن “دعّش داعش؟ ومن المستفيد من داعش ولمصلحة من وجوده؟”، مضيفا “أنا أسأل من يسلّحهم؟”، سألته إذا كان يعرف الجواب، قال “الكلّ يعرف الجواب ومن يعرف الجواب مصلحته أن يسكت (..) لماذا حين وصل داعش على بعد أربعين كيلومترا من أربيل أوقفهم الأميركيون بحائط من نار وتركوهم يسرحون في باقي المناطق (…)، أليس الجيش الأميركي من يقاتل في العراق الآن؟ ألم يقولوا إن محاربة داعش ستستغرق مدة لا تقل عن ثلاث سنوات؟ هذه لعبة”.
وسخر الشيخ الطفيلي من تصوّر إيران أنها مستفيدة من نفوذها في العراق، متسائلا “وهل تدخلت الولايات المتحدة في العراق واستثمرت مالا وقُتل منهم من قُتل ليتركوا العراق فريسة للإيرانيين؟ هل الأميركي يصطاد والإيراني يأكل؟”.
ودعا الطفيلي الشيعة إلى عدم تصديق أن إيران يهمّها أمر الشيعة بل أمر مصالحها، ودلّل على ذلك أن “أذربيجان شيعية إيرانية، وأنا قلت هذا للوزير الإيراني في حينها: تقفون مع الأرمن في أرمينيا ضد شيعة إيران في أذربيجان، وشيعة أذربيجان في قره باخ مهجّرون يسكنون في الخيام ببركة الدعم الإيراني لأرمينيا”.
وحذّر الطفيلي من هراء الكلام عن تحسين مواقع الشيعة في لبنان من خلال المؤتمر التأسيسي الذي دعا إليه سابقا السيّد حسن نصرالله، وتساءل “هل نحسّن مواقع الشيعة أم مواقع فلان في السلطة؟”.
أما بخصوص احتمالات خروج حزب الله من سوريا، فدعا الشيخ الطفيلي إلى مراجعة قرار التواجد في سوريا، لا سيما وأن التدخل الروسي يطرح أسئلة حول اللزومية العسكرية لوجود الحزب هناك.
وقال الطفيلي إن نظرية الممانعة سقطت، ذلك “أننا نعرف أن علاقة أوباما بإسرائيل أقلّ حنانا من علاقة بوتين بنتنياهو”، مضيفا “أقول بصراحة كلّ من يقاتل اليوم إلى جانب الروسي هو عميل للروس يموت في معركة ليست له علاقة بها، ومن يموت في سوريا يصرف دمه على طاولة أميركا وروسيا”.
وتوجه الشيخ الطفيلي إلى حزب الله قائلا “إذا كنت تزعم القتال ضد داعش فما وجدتك في جبهة فيها داعش، وجدتك في الزبداني والقصير وحلب وإدلب التي لا يوجد فيها داعش”.
وأنهى الطفيلي كلامه بالقول “سيلعن الشيعة يوما ما هذا الزمن ورجاله ويضعونه في خانة الخزي في تاريخ الشيعة”.
في مغادرة عين بورضاي يكتشف المتأمل لمواقف الشيخ صبحي الطفيلي شجاعة مخصّبة بغضب يبرره الشيخ بـ”الظلم”.
يقول لي، وهو في قلب البيئة الشيعية في البقاع، “انظر ماذا فعلوا ببعلبك”. وقد لا تقوى على النظر، لكن في كلمات الشيخ عبق كلمات قد يقصدها في ما قالته فيروز يوما “بعلبك، أنا شمعة على دراجك، وردة على سياجك، أنا نقطة زيت بسراجك..”.
صحيفة العرب