ليس الرضيع الذي وجد مرمياً في معمل لمعالجة النفايات في صيدا، الاول، وللاسف لن يكون الاخير. مثل هذه الجرائم تستفحل في بلد غارق بالفوضى والشرّ والفقر والجهل وعقدة "ورقة التين". أطفالٌ يرمون على قارعة الطريق وفي حاويات الزبالة كقشرة الموز. من ينجو منهم من موت قارس او حارق، سيحظى بحياة مذلولة في حضرة دولة تذكّره قولاً وفعلا وهوية بأنه مجهولٌ نكرة ولقيط!
لكنّ هذا الرضيع تحديداً، "حظي" بما لم يحصل عليه كثيرون! لم يبصقه رحم العار الى الاوساخ وحسب، ولم يقطّع الغدر اوصاله الصغيرة فقط، بل خرقت بعض الوسائل الاعلامية المحلية حرمة موته، فنشرت صورته مقطعاً في "الكرتونة"، على ورق الجريدة ومساحاتها الالكترونية!
لا صدفة في العثور على جسده الصغير المهشم دون رأسه. اليوم تحديداً نفهم انه اختار اضاعته في زحمة النفايات، كي يخلّصه من اطلالة ذلّ بين أسطر خبر كان ليكتمل ويصيب الحقيقة دون الصورة. خبرٌ تخطّى بحروفه أصلاً حدود وصف موت طفل دون خدش مشاعره... كان يمكن الاعلام ان ينقل الينا بأسى ولياقة، الحقيقة المرّة: الطفولة أيضاً تهمد وتستكين. لكنّ الخبر في مفهوم بعض إعلامنا المحليّ والعربي بات بحاجة الى تأكيدات وتوثيقات ومؤثرات بصرية وسمعية، كي يُصدَّق. لا يكون موتٌ أكان عبر حادث سير أو تفجير ارهابي أو جريمة قتل...من دون أشلاء ودماء. يُجبر الرأي العام على ان يكون "توما"، وهو يرحب فيتحسسّ اليدين والرجلين. كلما كثرت الاعضاء الممزقة والمبعثرة، كلما صار الموت حقيقياً.
تأكدوا اذاً كان صغيرنا الرضيع قد شبع موتاً، فابكوه حتى تتورّم العينين...برافو! ابكوه فقد مات مرتين. مرة حين لُفظ الى حاوية النفايات (الانظف ممن رمى به) كاملاً او مقطعاً، ومرة اخرى حين ظهر على الاعلام مذبوحاً. لا عذر ولا مبرر ولا اعتذار متاحاً امام من أعطى الامر بالنشر ومن وافق ومن نشر ومن سكت، فجثة الصغير لم تظهر خلال نقل مباشر وعن طريق الخطأ، بل على صفحة جريدة ورقية استغرق انجازها نهارا وليلاً، لتتوّج "الجريمة" المرتكبة عن سابق تصوّر وتصميم، بنشر الخبر مرفقا بالصورة على النسخة الالكترونية!
بات مبتذلاً تكرار الحديث عن كيفية تعاطي الاعلام الغربي مع حرمة الموت والمشاهد العنفية. المثال الاحدث اتانا مؤخرا من بلجيكا، علماً أن الاحداث الارهابية التي ضربتها جديدة نوعا ما على الشعب ودولته واعلامه، وبالتالي قد تُبرر لهم هفواتهم ولا سيّما في اثناء النقل المباشر. لكن حتى هذه الهفوات لم تحدث، فلماذا باسم الخالق، نصرّ على التمثيل بجثثنا الحيّة منها والمتوفاة؟! لم يعد مقبولاً تمرير هذه "الخطايا" من دون الرجم بالحجر، فالتوبة بتكرار جملة "نعتذر عن قساوة المشهد" خطيئة اخرى. المشهد اصلاً لا يعود قاسياً امام قساوة من يُظهّره على الشاشات وفي الصحف والمواقع الالكترونية!
لبنان 24