تضجّ قوى الأمن بـ«فضيحة» سرقة ملايين الدولارات بالنصب والاحتيال من ميزانية المديرية. مجموعة ضباط وعناصر اختلسوا أموال المساعدات المرضيّة المخصصة للمتقاعدين. وفي الأسابيع الماضية، أُعيد فتح التحقيق في هذا الملف. تزامن ذلك مع سجن عدد من الضباط والعناصر وطرد آخرين من السلك

أُحيل أكثر من 20 ضابطاً في قوى الأمن الداخلي على المجلس التأديبي، تمهيداً لطرد بعضهم من سلك الشرطة. بين هؤلاء الضباط، متورطون في قضايا فساد ورشوة ومخدرات. وفي هذه الملفات، فُتح تحقيق هو الأضخم داخل أروقة المديرية، تمّ بموجبه الاستماع إلى أكثر من 400 عنصر بين رتيب ودركي وضابط، ينقسمون بين شهود ومشتبه في تورطهم في ملفات الفساد.

وعلمت «الأخبار» أن بين الذين جرى استدعاؤهم للتحقيق، الرئيس السابق لوحدة الإدارة المركزية العميد محمد قاسم المحال على التقاعد منذ أكثر من 3 سنوات، للاستماع إلى إفادته، لكنّ الأخير رفض المثول، طالباً إبلاغه بواسطة القضاء، لاقتناعه بأنّ استدعاءه عبر القضاء يستوجب حُكماً استدعاء رئيسه السابق اللواء أشرف ريفي، وهذا ما لن يحصل باعتقاده. العميد المذكور لم يكن الوحيد الذي احتمى بتقاعده وانقطاعه عن الخدمة. هناك العديد من المتقاعدين الذين حذوا حذوه، رافضين المثول أمام المحققين في المديرية.
يقبع اليوم عدد من الضباط والعناصر في السجن لتورطهم في قضايا سرقة واختلاسات مالية. من أبرز هؤلاء، أحد ضباط شعبة الشؤون الإدارية المقدم م. ق. والمعاون أوّل ب. ت. ويتداول عناصر في المديرية أنّه اكتُشف لدى الأخير مبنى بأكمله مسجّل باسمه، فيما يزخر حساب الأول بمليارات الليرات (يُحكى عن مبلغ يفوق الـ10 مليارات ليرة). بدأت القضية منذ سنوات. وقد أسّس المشتبه فيهم لهذه الحالة في عهد العميد أحمد حنينة، عندما كان رئيساً لشعبة الشؤون الإدارية. يومها أُعطي المقدم صلاحيات واسعة، وسُلِّم ملف المساعدات الاجتماعية والمرضية للمتقاعدين. آنذاك، ابتُدع ما سُمّي «فشل توطين»، أي أن الأموال العائدة للمتقاعدين من مساعدات اجتماعية أو غيره لا تودع في حساباتهم الشخصية في المصارف، فتقرر وضع الأموال المصروفة في حساب المقدم الشخصي، على أن يقوم هو بالاتصال بالمتقاعدين المستفيدين من هذه المساعدات، ليسلمهم الأموال العائدة لهم. وعلى مدى 10 سنوات، أوكلت له هذه المهمة. فماذا كان يجري؟


كان العسكري المتقاعد يتقدّم بطلب مساعدة مرضيّة للمركز الطبي التابع لشعبة الشؤون الإدارية والمرتبط بالضابط ق. وبدورها، تحدد لجنة مكلّفة في المركز قيمة المساعدة، ثم تُرسلها إلى وحدة الإدارة المركزية. في هذه الوحدة، تُصدّر قرارات المساعدات بموجب رقم تسلسلي، ثم تُرسل إلى وزارة المالية. ومن هناك، تُصرف المساعدات ليتم إرسال الأموال إلى الضابط ق. ليدفعها للمستفيدين. وبما أنّ هذه الآلية كانت تستغرق سنوات أحياناً، ومعظم المتقاعدين لا يتابعون سير طلباتهم، كان المقدم ق. يُخفي العديد من القرارات، فلا يُبلغ أصحاب الشأن بوصول المبالغ المقررة لهم ليتركها في حسابه الشخصي. ولم تتوصل التحقيقات إلى تحديد تاريخ بدء المقدم بهذه العملية. ولمّا سُئل عن القرارات التي قبض قيمتها ودفعها إلى مستحقيها، تبيّن أنها مفقودة. المقدم القابع في السجن ومعاونه مطالبان بإعادة الأموال المختلسة. يُريد المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء ابراهيم بصبوص محاسبة جميع المتورطين وإعادة المال المسروق والمهدور من العسكر والضباط. وقد بدأ بصبوص حملة المحاسبة هذه بعقوبات مسلكية، فسجن بعض من ثبت تورطه ونقل آخرين من مراكزهم إلى مراكز أخرى. لكن، هل سيكتفي بهذه التدابير؟ وهل تجرؤ المديرية على رفع دعوى قضائية بحق الضباط والرتباء الذين تقاعدوا أخيراً وتبين أنهم كانوا متورطين في هذا الفساد لتجرّ المئات إلى التحقيق؟ وماذا عن الضباط الكبار المحميين سياسياً؟ ترد المصادر الأمنية أنّه بعد احتماء عناصر وضباط بالتقاعد، أحالت قيادة المديرية الملف على القضاء لمتابعته حتى النهاية، بطلب من وزير الداخلية نهاد المشنوق.
التحقيق يشمل عمليات اختلاس من نوع آخر. إذ لم يقتصر الأمر على سرقة المساعدات المَرَضية للمتقاعدين فحسب، بل وصلت السرقة إلى المساعدات المَرضية والاجتماعية المخصصة لعناصر الخدمة الفعلية. وأظهرت التحقيقات وجود عناصر تحايلوا على القانون. فقد كان البعض يزوّر فواتير الأطباء. فيما يقدم البعض الآخر الفواتير عينها شهرياً ليقبض على الفاتورة نفسها مرات عديدة. وأدّت التحقيقات إلى سجن المؤهل أول ح. ح. لمدة شهر، بسبب الاشتباه في تورطه في اختلاس أموال مساعدات اجتماعية مخصصة لعوائل شهداء.
القضية تتفاعل سياسياً اليوم. في السياسة، يُحكى عن حرب وزير الداخلية نهاد المشنوق ضد اللواء أشرف ريفي، وزير العدل المستقيل. كما يُقال إن الرئيس سعد الحريري يريد الانتقام من ريفي، بواسطة رئيس فرع المعلومات العميد عماد عثمان الذي تخرج من عنده معظم المعلومات عن قضايا الفساد المفتوحة. استُدلّ على ما يُحكى عن نية ضرب ريفي بأنّ أغلب العقوبات ذُيّلت بعبارة أن المعاقَب «استغلّ الفوضى العارمة». وقُصِد من ذلك الفوضى التي كانت سائدة في عهد ريفي. إذ إنّ عمليات الاختلاس هذه حصلت يوم كان ريفي مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي. وبالتالي، هي تركته التي يُريد الحريري ــ المشنوق ــ عثمان تصفيتها.
لكن أحد أعضاء مجلس قيادة الأمن الداخلي ينفي الطابع السياسي لعملية محاسبة الضباط والعناصر المتهمين بالاختلاس. يقول إن كل ما يجري يقوده المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء ابراهيم بصبوص، الذي تجرأ على محاسبة ضبّاط، واتخذ، دون غيره، قرارات بطرد بعضهم. وبحسب الضابط نفسه، فإن بصبوص مصرّ على اعتماد مبدأ الثواب والعقاب في آن معاً. فإلى جانب توقيف عشرات الضباط والعناصر بقضايا اختلاس، قرّر بصبوص صرف مكافأة مالية (تراوح بين ٥٠٠ ألف ليرة ومليون ليرة) لكل ضابط أو عنصر يُحقق إنجازاً.
تجدر الإشارة إلى أن المديرية، في سابقة من نوعها، سدّدت منذ نحو شهر كامل المبالغ الواجبة للمساعدات المرَضَيّة المستحقة لضباطها وعناصرها حتى نهاية عام 2015.