أحد الإشكاليات التي يجب أن توجه إليها جهود المفكرين والعلماء هي تحديد صورة العدو وخصائصه وأشكاله. وهذه الإشكالية وقع فيها كثير من المنحرفين فكرياً حيث تعميم صورة العدو وتضخيمه وسيطرته على عقولهم من خلال التفكير في وسائل تدميره والانتصار عليه.
ان فهم حاجة المنحرفين فكرياً إلى وجود عدو، فقد يكون وجود ذلك العدو كبش فداء لتغطية إخفاقات: اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية يعانون منها . وقد يكون وجود العدو عامل توحيد لذوي الفكر المنحرف. كما وان تعريف صورة العدو في أذهان هؤلاء يجب أن تصل بعقولهم إلى أن العدو هو من يريد بهم الشر والمكر واستنزاف قوتهم وتدمير مجموعهم .
كذلك ايضا يجب تنبيه أصحاب الفكر المنحرف بأن الذين يدفعونهم ويمولونهم لن يكونوا أصدقاء وموالين دائمين فقد ينقلبون عليهم ويتركونهم في الساحة لوحدهم يواجهون مصيرهم بعد أن جعلوهم أداة لتحقيق مآربهم، ففي عالم المصالح لا صديق ولا عدو دائم حيث انني اردت من هذه المقدمة للموضوع ان اصل الى نتيجة واقعية ومهمة وهي: إن الكشف عن مصادر الفكر المنحرف ومحاولة تجفيف منابعه احد الطرق الفعالة في القضاء على الانحراف الفكري خاصة ذلك الانحراف المتعلق بالدين.
وعليه يجب إدراك أهمية استقراء شبهات الغلاة والمنحرفين فكريا عن المنهج الديني الصحيح ودعاويهم أو الأمور الملتبسة عليهم، وتتبع مقالاتهم ومؤلفاتهم وسائر مزاعمهم والتعرف على رؤوسهم ومرجعياتهم، ثم الرد عليهم بالحجة والدليل والبرهان الشرعي والعقلي ، والحوار الجاد مع المنظِّرين والمتبوعين حول قضايا الخلاف و إسقاطها من قبل المختصين إن معظم الذين يحملون أفكارا منحرفة عن الدين والمجتمع هم ممن اختلت مفاهيمهم وتشوهت معتقداتهم.
وفهموا إن استباحة الدماء جائزة وهتك الحرمات وتدمير الممتلكات وترويع الآمنين بالمتفجرات هو جهاد مشروع، كما إن تكفير الحكام والعلماء واجب ، والحوار مع الغير ضعف. قد تؤدي انفعالات الفرد وحاجاته ومصالحه ورغباته إلى التأثر بمظاهر خاصة للشيء أو الشخص أو الفكر. ويؤدي ذلك إلى أن تكون معرفته عن هذا الشيء وإدراكه مختلفا عن الواقع وبعيدا عن الحقيقة أو مجانباً للصواب، وكثيرا ما ينخدع الإنسان أمام تأثير المشاعر القوية أو الدوافع المستثارة أو المعلومات المضللة ، ثم يتحول هذا الانخداع إلى التأثير على مفاهيم الفرد ومدركاته واتجاهاته ومعتقداته نحو الأشياء أو الأشخاص. وعندما تتأثر هذه المفاهيم والاتجاهات سلبا بالمثيرات الخارجية مثل الأفكار والأشخاص فإن تصحيحها أو تعديلها يصبح عسيرا، بل إن خلل أو انحراف هذه المفاهيم يتبعه انحراف في السلوك، ويصبح الأمر أكثر مشقة في الإصلاح. من طرق معالجة التطرف والغلو والانحرافات الفكرية فسح المجال للرأي الآخر، وقبول الحوار معه بل الدعوة إلى هذا الحوار، واستخدام سلاح الحجة والبرهان والإقناع، سواء كان هذا الآخر مغايرا في السياسة أم في الفكر أم في الدين.
وقد ذكر القرآن الكريم أمثلة ونماذج كثيرة للحوارات منها ما بين الله عز وجل وملائكته، ومنها حوارات الأنبياء والرسل مع أقوامهم مثل حوارات نوح وإبراهيم وشعيب.ولكن هذا النقاش يجب أن يكون بطرق تختلف غاية الاختلاف عن طرق أصحاب الدعايات الذين همهم إقناع الخصوم بأية وسيلة مشروعة كانت أم غير مشروعة، وكذلك تختلف عن طرق أهل الحوار والمساجلات الخطابية الذين يرون في الحوار إنه كنوع من أنواع الحروب لا هدف له إلا النصر على العدو وليس التوصل إلى توضيح الأمور في أفكارهم وأفكار الآخرين معا.
إن الحوار مع هذه الأنماط الفكرية قد يكشف الكثير عن الأفكار التي تبدو غامضة، ولهذا يعتبر الحوار مفيداً في إخراج أصحاب الفكر المنحرف من سجن الترديد والتقليد إلى رحابة الفكر العقلي وسماحته، فهو يفتح أمامهم آفاقا جديدة لم يكن مسموحا لهم داخل جماعاتهم ويعينهم على استخدام ملكة العقل . وبالطبع فإنه لا حوار مع القتلة المعتدين الذين يؤمنون بالرصاصة القاتلة لا بالكلمة العاقلة، وبسن السكين لا بسن القلم، وبفكرة القوة لا بقوة الفكرة. إنما الحوار مع الذي ألقى سلاحه خلفه ويريد أن يكتشف خطا الطريق الذي سلكه.
استمرار احترام مكانة العقل ودوره في حل المشكلات، كما يجب أن تستمر أو تزيد الرغبة في الحوار، والوصول إلى حلول واقعية لقضايا الخلاف الفكري كما يجب أن يتوقف اليأس من حل المشكلات العالقة، لان أسلوب الجسور الممدودة مع الغير هو أسلوب فعال في حل كثير من المشكلات المزمنة بين الأفراد والجماعات،ومن الأساليب الفعالة في فهم وإدارة الصراع مع المنحرفين فكريا هو بناء جسور للوصول إليهم وهدم كل العوائق والحوائط التي تحول دون ذلك.
إن تقبل ذوي الانحراف الفكري هو أول شروط مساعدتهم وتعديل انحرافاتهم، ثم يأتي الصدق والإخلاص في علاجهم، ومعرفة الدوافع المحركة لسلوكهم وأفكارهم. انا اطرح موضوعا مصيريا في الامة للمعالجة لا للتنظير وكتابة المقالات الانشائية
يتبع ..........