إذا كان مبررا للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أن يستعصي عليه التمييز بين البحر الأبيض المتوسط قبالة لبنان وبين المحيط الأطلسي، فإن أهل السلطة اللبنانية، وخصوصا أعضاء المجلس النيابي والحكومة، مطالبون بالخضوع إلى اختبار إثبات أهليتهم الوطنية، وإلا كيف يفسر أن معظمهم لا يحفظ نشيد بلده أو لا يعرف حدوده وبنود دستوره.. والأهم المصلحة الوطنية العليا!
ترتسم الخرائط الجديدة في المنطقة، وتصر الحكومة على تجاهل قضية مراسيم النفط. صارت المسألة مريبة جدا، لكأن ثمة «همسا» خارجيا، وتحديدا أميركيا في بعض «الآذان» اللبنانية، بأن يبقى هذا الملف «على الرف» بانتظار جلاء صورة المشهد السوري وربما الإقليمي.
وها هي مشكلة الحدود البحرية الخالصة تستمر عالقة مع العدو الإسرائيلي، كما المراسيم النفطية، فيتضافر تآمر العدو مع تآمر الداخل، لتضيع ثروة نفطية على لبنان فيما إسرائيل سبقته سنوات الى الأمام لا بل بدأت في استثمار هذه الثروة.
تلك المشكلة نشأت جراء عدم مبادرة لبنان الى ترسيم حدوده البحرية الامر الذي استغلته اسرائيل وقامت بالسطو على المياه الإقليمية اللبنانية عبر رفع ما يسمى بـ «الطفافات» (800 متر شمال حدود المياه الاقليمية اللبنانية الجنوبية)، ولكن الاخطر هو ما تكشف مؤخرا بأن لا وجود لحدود بريّة رسمية للبنان، بينما صار الكل يحفظ عن ظهر قلب مقولة «حفظ سيادة لبنان واحترامها ضمن حدوده المعترف بها دوليا».
السؤال البديهي هنا: أين هي تلك الحدود، هل هي موجودة فعلا، وهل قامت الدولة اللبنانية منذ نشوئها بتثبيت هذه الحدود؟ وهل قامت بإعلانها أو إيداعها المحافل الدولية لكي تصبح حدودا ناجزة وملزمة للعالم لكي يعترف بها، وهل يعرف اللبنانيون ان وطنهم بلا حدود معلنة معترف بها دوليا؟
عمليا، تبدو حدود لبنان «أرضا سائبة» لا ضابط لها ولا سياج، وهذه الحقيقة لم يكشفها لبنان الغافل عن هذا الأمر، بل الأمم المتحدة عبر دراسة طلبت إعدادها لتوضيح الوضع القانوني للحدود البرية اللبنانية.
وفي المعلومات التي توافرت لـ «السفير» ان الأمم المتحدة استعانت بفريق من الخبراء اللبنانيين في المجال الحدودي، فتبين لهم ان فقدان الحدود البرية بدأ يتكشف منذ بدء ازمة الحدود البحرية، اذ ان الحكاية بدأت حينما وضع المجلس النيابي اللبناني القانون الرقم 163 في 11 آب 2011، والمتعلق بالحدود البحرية.
استنادا الى هذا القانون، اصدر مجلس الوزراء بعد أشهر قليلة المرسوم الرقم 6433 الذي حدد احداثيات الحدود البحرية الاقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وتمت مراسلة الامم المتحدة بهذا الخصوص، وقد تبيّن للأمم المتحدة ان لبنان، وبعدما اصبحت له حدود بحرية دولية موثقة في الامم المتحدة (برغم الخطأ اللبناني الفادح في مسألة ترسيم الحدود مع قبرص)، لا وجود لأية مستندات رسمية لبنانية تحدد حدوده البرية في الأمم المتحدة.
وكان قد سبق للامين العام السابق للامم المتحدة كوفي انان ان اشار الى هذا الامر بقوله حرفيا قبل انتهاء ولايته: «يبدو انه لا توجد اية مستندات رسمية على حدود رسمية دولية متفق عليها بين لبنان والدول المجاورة» (فلسطين المحتلة وسوريا)، والسؤال البديهي هنا: هل بلغ كلام انان هذا مسامع الدولة اللبنانية، وإن بلغها فلماذا لم تتحرك لتثبيت حدودها رسميا منذ سنوات طويلة؟
وفق ما خلص إليه فريق الخبراء اللبنانيين، وبينهم اللواء الركن المتقاعد عبد الرحمن شحيتلي، فإن حكاية الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة تبدأ مع سايكس بيكو وترسيم الحدود في كانون الاول 1920 بين النفوذين الفرنسي والبريطاني، حيث تم وضع 71 نقطة حدودية ما بين رأس الناقورة والحمّة السورية، بينها 38 نقطة على الحدود اللبنانية الفلسطينية.
وبحسب الخبراء، فإن لبنان وقع في اذار 1949، اتفاقية الهدنة في رأس الناقورة، وقد ورد حرفيا في المادة الخامسة من تلك الاتفاقية: «يتبع خط الهدنة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين». وأرفق بالاتفاقية تثبيت النقاط الـ38، بالاضافة الى 97 معلما وسيطا. وقد توقف العمل عند النقطة «38 BP»، بسبب الخلاف آنذاك بين اعضاء لجنة الترسيم اللبنانية ـ الاسرائيلية، على تفسير الحدود ما بين المطلة وجسر الغجر. وقد تسبب ترسيم الحدود باقتطاع مناطق لبنانية اهمها: قرية «صلحا»، وكانت اسرائيل قبلها قد اقتطعت القرى السبع، وقرية المطلة من الاراضي اللبنانية.
ويلحظ تقرير الخبراء انه بعد الانسحاب الاسرائيلي في العام 2000، وضعت ما سميت «خريطة لارسن»، وتبين خلال التدقيق فيها وجود تسعة فوارق، وافق الفريق الدولي على تصحيح ستة منها وبقيت ثلاثة موضع تحفظ. وفي حزيران 2000 ظهرت لائحة الإحداثيات لـ «الخط الأزرق» فتبين وجود فوارق في اربع مناطق تحفظ عليها لبنان.
وبعد حرب تموز 2006، ومن ضمن اللجنة العسكرية الثلاثية اللبنانية الاسرائيلية الدولية التي تتابع تنفيذ القرار 1701، تم تشكيل لجنة فرعية تقنية لمتابعة ترسيم «الخط الأزرق»، فتبين وجود خروق اسرائيلية في 13 نقطة حدودية، ما دفع الجانب اللبناني الى اتخاذ قرار بترسيم النقاط الحدودية الصحيحة على «الخط الازرق».
ويخلص الخبراء، الى ان الحدود الجنوبية ما تزال محل التباس، وان ما يحكى عن احترام سيادة لبنان حسب حدوده المعترف بها دوليا بلا مضمون، ما لم يعلن لبنان صراحة ورسميا وقانونيا حدوده، كما فعل مع الحدود البحرية، وهذا يتطلب المسارعة إلى إصدار قانون من مجلس النواب يحدد الأطر والضوابط لترسيم الحدود البرية، يليه إصدار مرسوم تطبيقي من قبل الحكومة مرفقا بخريطة ولائحة إحداثيات، تماما كما فعل بالنسبة إلى الحدود البحرية.
الكرة، وفق الخبراء، «في الملعب اللبناني لجهة المبادرة سريعا لإصدار التشريعات الضرورية، لان بقاء الوضع على ما هو عليه، مع مرور الزمن، سوف يكرس الخط الأزرق كخط حدودي ثابت معترف به من قبل لبنان وإسرائيل، وموثق في الأمم المتحدة، وأي تأخير في هذا الأمر معناه بقاء الحدود سائبة، وبالتالي ضياع حق لبنان في الأراضي المقتطعة تماما كما ضاعت حقوقه من قبل في القرى السبع.
أما بالنسبة إلى الحدود الشمالية والشرقية (بين لبنان وسوريا)، فيشير الخبراء إلى انه برغم وجود اتفاق بين الدولتين على مبدأ توقيع اتفاق حدودي، فإن اللجان التي عملت على هذا الموضوع من العام 1960 حتى العام 1970، وكذلك اللجان التي شكلت ما بعد الاتفاق بين الرئيس بشار الأسد والرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان في آب 2008 على تعليم وتحديد الـ320 كيلومترا ما بين الدولتين، لم تنجح في الوصول إلى نتيجة، علما ان التباين اللبناني السوري ليس على الحدود السياسية، بل على ملكيات عقارية وخلافات بين مزارعين، ما عدا التباين على مناطق تواجد المعسكرات الفلسطينية على الحدود ما بين الدولتين.
ويلفت تقرير الخبراء الانتباه إلى أن إسرائيل قد استغلت عدم وجود حدود برية لبنانية محددة رسميا بين لبنان وسوريا، لاحتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
الخلاصة التي ينتهي إليها الخبراء أن التباين الحدودي اللبناني السوري يمكن حسمه سريعا بترسيم الحدود السياسية، وأما الملكيات، فيمكن حلها بالتوافق بين الدولتين ما بعد ترسيم الحدود السياسية.
ويلفت الخبراء النظر الى ان الضرورة باتت ملحة للترسيم البري اكثر من اي وقت مضى، خصوصا في ظل المخاطر التي تهدد بتغيير كل حدود الاقليم، وهذا يضع لبنان الذي تأخر ثلاثة ارباع القرن عن تنفيذ ما كان مطلوبا منه، أمام مهمة عاجلة تتمثل في التعجيل باصدار التشريعات المطلوبة والمراسيم ذات الصلة وايداعها الامم المتحدة حفاظا على الدولة وعلى حقوق الاجيال القادمة.