أوحت الحركة السياسية والقضائية الناشطة أمس على خط فضيحة الانترنت غير الشرعي، أن هناك محاولة رسمية لاستدراك ما فات واستعادة المبادرة.. والحقوق، بعدما استباحت المافيات «السيادة التقنية» للدولة على مدى أعوام، حيث تكونت ما بين الارض والفضاء دويلة الانترنت المخالف للقانون، والقابل للاختراق على أنواعه.
وإذا كان الضغط الذي ولّده انكشاف هذه الفضيحة المدوّية قد دفع المسؤولين الى التحرك في أكثر من اتجاه، إلا ان العبرة تبقى في الخواتيم التي كثيرا ما كانت غير سعيدة أو غير كافية، كما تُبين التجارب السابقة.
وعليه، فإن التحدي ليس في فتح الملف فقط، بل في إقفاله بالطرق القانونية السليمة والحازمة، على قاعدة محاسبة كل متورط، أياً كان موقعه، وبالتالي تجنب أي شكل من أشكال اللفلفة أو المداراة، وصولا الى إعلان نتائج التحقيقات وكشف هوية كل من تثبت مشاركته في الجريمة المرتكبة، عن سابق تصور وتصميم، بحق الأمن الوطني وخصوصيات اللبنانيين والخزينة العامة وهيبة الدولة.
وتبدو الحكومة الخارجة للتو من مستنقع النفايات أمام اختبار جديد للمصداقية في مواجهة الشبكة العنكبوتية لتهريب الانترنت.. فهل تنجح فيه، أم تكون دويلة الأثير المستباح أقوى منها؟
ومع تدحرج حقائق هذه القضية، يوماً بعد يوم، تبين أن الفضيحة لا تتوقف عند حدود بضع شركات مخالفة، بل هي تتعلق بفوضى عارمة في كل قطاع الانترنت، الذي «فرّخت» على ضفافه شبكات مناطقية واسعة من المنتفعين وأصحاب المصالح، بأحجام متفاوتة.
ويؤكد أحد العارفين انه لو كانت هناك دولة حقيقية لطارت الحكومة ومعها مجموعة من الأسماء الكبيرة، بفعل عصف فضيحة الانترنت التي بيّنت أن القطاع الأهم، والذي سبق أن وصفه البعض بأنه نفط لبنان، يعاني من أمراض الفوضى والاحتكار والاستئثار والإهمال، ليتحول الى مصدر لاستنزاف الدولة بدل أن يكون رافدا لها.
وفي معلومات «السفير» ان «مغارة الانترنت» تضم عددا كبيرا من الشركات المتوسطة والصغرى، المتفلتة من القانون والأصول، الى جانب تلك الكبرى التي استقطبت الأضواء خلال الأيام الأخيرة.
وإذا كان استيراد السعات الدولية من الخارج، عبر الكابل، ملكاً حصرياً للدولة وحدها، فإن الشركات المخالفة (سواء غير المرخصة أو تلك المرخصة) تبرر لجوءها الى تهريب الانترنت من تركيا وقبرص بحاجتها الى تلبية احتياجات الزبائن المتزايدة في ظل شح الإمدادات الرسمية، معتبرة أن هيئة «اوجيرو» تتحكم بالسوق والتوزيع مزاجياً، من دون ضوابط أو معايير واضحة، وانها تدلل قلة في القطاع على حساب الأكثرية الساحقة من الشركات الناقلة (عددها أربع تقريبا) والموزعة (عددها 112 تقريبا) والتي لا تحصل سوى على كميات قليلة من «السعات»، بينما الطلب عليها من قبل الزبائن هو أكبر بكثير، وفق مصادر الشركات.
وعُلم أن وزير الدفاع سمير مقبل وممثلي الجيش طرحوا هذه النقطة خلال اجتماع السرايا أمس، وطلبوا استيضاحات من مدير «اوجيرو» عبد المنعم يوسف في هذا الشأن، فيما تردد أن النقاش بين الطرفين لم يخلُ من الحدة أحيانا.
والمفارقة في هذا المجال، أنه برغم إنجاز مشروع «الفايبر أوبتيك» الذي من شأنه أن يحسّن قدرات شبكة الانترنت الشرعي، إلا أن الدولة لم تستفد منه بعد ولم تستدعه حتى الآن الى الخدمة - علما أن كلفته المالية كانت باهظة - وذلك بسبب النكايات السياسية وتصفية الحسابات بين مراكز القوى في داخل السلطة المهترئة.
وإزاء تشعب «أنفاق» ملف الانترنت، فإن المسألة لم تعد محصورة في ملاحقة أمنية أو قضائية لمتورطين في المخالفات، بل أصبحت تتصل بإعادة تنظيم شاملة لكل هذا القطاع الحيوي، في بعده الأمني الحساس ومروده المالي الكبير وقواعده الناظمة وشركاته المتناسلة، لا سيما أنه تضخم كثيرا خلال السنوات القليلة الماضية، فيما بقيت آلياته متواضعة وقاصرة عن اللحاق بالإيقاع السريع لتطور سوق الانترنت واتساعه.
ولعل الشرط الأساسي لنجاح محاولة ضبط هذا القطاع الذي كان يتمدد بمعظمه خارج حدود «جاذبية» الدولة، هو رفع الحمايات وتفكيك المحميات التي قد يتسلح بها، أو يتلطى خلفها البعض للتهرب من المساءلة والمحاسبة، خصوصا أن هناك من بدأ يتخوف من وجود تغطية سياسية لجزر الانترنت غير الشرعي في بعض المناطق والأطراف.
الى ذلك، قال رئيس لجنة الاتصالات والإعلام النيابية النائب حسن فضل الله لـ «السفير» إن ملف الانترنت يكبر تباعاً، وتتكشف فيه مع مرور الوقت حقائق جديدة حول الهدر المالي الكبير واحتمالات الخرق الأمني، مؤكدا أن هذه القضية ستبقى موضع متابعة حثيثة من قبل اللجنة التي ستستمع الأربعاء المقبل الى معطيات وزارات المال والدفاع والداخلية، في الشقين الأمني والمالي.
وأضاف: سنستكمل ما كنا بدأناه في لجنة الاتصالات في 8 آذار حين اكتشفنا رأس جبل الجليد في فضيحة الانترنت، ونحن سنواصل عملنا لإماطة اللثام عن كل ما خفي من هذا الجبل، وسيشكل محضر جلسة اللجنة في 21 آذار واحداً من المستندات التي سيتم استكمالها الاربعاء المقبل، للوصول الى تظهير كل الصورة، من جميع زواياها.
بري: اعتداء خطير
وشدد الرئيس نبيه بري، من جهته، على وجوب «المتابعة التفصيلية والدقيقة لفضيحة شبكة الانترنت»، واصفاً هذا العمل بالاعتداء الخطير الذي لا يمكن السكوت عنه، والذي يفترض متابعته، إن على مستوى الخطر الأمني الناجم عنه أو على مستوى سرقة المال العام.
واطلع بري خلال لقاء الاربعاء النيابي امس، من النائب فضل الله، على المعطيات التي تجمعت لغاية الآن، مشدداً على ضرورة «استكمال متابعة هذا الموضوع حتى النهاية».
على صعيد آخر، أوضح بري أنه بعدما تسلم تقرير اللجنة النيابية حول مشروع قانون الانتخاب، سيعرضه أمام المتحاورين في جلسة الحوار الوطني المقبلة ليتحمل كل مسؤوليته، داعياً الى تفعيل عمل مجلس النواب واستئناف الجلسات العامة، لافتاً الانتباه الى أن هذا الموضوع سيكون محور النقاش في جلسة الحوار ايضا.
اجتماع السرايا
وترأس رئيس الحكومة تمام سلام في السرايا امس، اجتماعا خصص للبحث في ملف الإنترنت غير الشرعي، حضره كل من وزير الدفاع سمير مقبل، وزير الاتصالات بطرس حرب، ورؤساء الأجهزة الأمنية والقضائية المختصة، والمدير العام لـ «اوجيرو» عبد المنعم يوسف.
وشدد سلام على «وجوب متابعة التحقيقات لكشف كل ملابسات الانترنت غير الشرعي وطبيعة المنشآت القائمة وكيف دخلت الى لبنان والظروف التي دخلت من خلالها ولماذا دخلت، وكيف تم تركيبها؟».
واعتبر حرب ان «ما جرى هو إنجاز، إلا أن ذلك لا يكتمل اذا لم تحصل متابعة جدية لإقفال هذا الملف، على كل الصعد».
مسارات التحقيق
وقال المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود إن التحقيق في القضية يتم على أربعة مسارات:
المسار الاول يتعلق بما أثير عن قيام أشخاص باحتجاز موظفين تابعين لهيئة «اوجيرو» وعناصر أمنية، وقد فُتح تحقيق في ذلك.
المسار الثاني بشأن خرق الانترنت من قبل العدو الاسرائيلي أو جهات اخرى، وقد طلبت من مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر إجراء التحقيق.
المسار الثالث، يكمن في طلبي من مفوض الحكومة إجراء التحقيق بشأن الإهمال الحاصل، أو التغاضي من قبل الجهات الأمنية والمعنية، عن السماح بتركيب أعمدة مجهزة بصحون من الحجم الكبير والصغير لاستعمالها في مجال الانترنت أو استخدام الانترنت بواسطتها من قبرص أو تركيا، وكذلك تمديد كابلات وتثبيت صحون صغيرة لشبكة الانترنت أو تمديد كابلات بحرية، وكذلك معرفة كيفية إدخال هذه المعدات الى لبنان من دون ترخيص.
والمسار الرابع يتصل بالانترنت غير الشرعي أو استقدام الانترنت من تركيا وقبرص من دون ترخيص، وقد كلفت قسم المباحث الجنائية بإجراء التحقيق في هذه القضية وبإشرافي شخصيا.