ظروف الناس المادية قاهرة. فرص العمل ضئيلة، ومطار بيروت الدولي يشهد حركة عبور يوميّة من قبل شباب الوطن إلى بلاد المهجر. لبنان تأثّر بالحرب الدائرة في مختلف المحافظات السورية، ومشاركة جزء من اللبنانيين في المعارك الجارية هناك، كان لها تداعيات وخيمة على الصعيد الاقتصادي. السواح الذين حضروا لاستطلاع المعالم التراثية والحضارية للبلاد، عادوا أدراجهم إلى عواصمهم الأوروبية، وشوارع بيروت التي تروي بصمت قصص الحرب الأهلية، صارت خالية من الوجوه العربية التي انكفأت إلى بلاد الصحراء بناءاً على طلب سفاراتها. مشهد، يبعث على الألم والأسى، ويعيدنا بالذاكرة إلى الصور التي شاهدناها جميعاً عبر وسائل الاعلام، عقب اغتيال الشهيد رفيق الحريري في وسط بيروت. ماكينات القتل لا تزال تعمل، على الرغم من نشاط الأجهزة الأمنية، وسيارات الموت التي كانت مركونة على جنب الطريق، غدت عقولاً مفخخة تنتهز الفرصة المناسبة للانقضاض على تجمع للأطفال والمدنيين العزّل.    

على الرغم من ذلك، المواطن اللبناني الذي تركه السياسيون يبحث عن لقمة عيشه في الشوارع، لا يزال لديه أمل في أن يحيا حياة كريمة، فيتوجه صبيحة كل يوم إثنين أو خميس إلى مراكز الـ"لوتو"، علّ الأرقام الستة التي اختارها عشوائياً أو بإرادته، تمكّنه من الفوز بالجائزة الأولى، لتغيّر مجرى حياته ويصبح حديث الناشطين على صفحات التواصل، بفضل ألفَي ليرة لبنانية كان سيدفعها لسائق سيارة الأجرة من أجل إيصاله إلى عمله.   سوء الادارة حطّم أحلام مروان مروان (37 عاماً)، وفي حديثه مع "النهار"، روى تجربته "المريرة" مع الـ"لوتو". وفي التفاصيل، أنه حينما كان متوجهاً إلى عمله في محلة الحمراء يوم الاثنين 13 أيلول العام 2004، رأى كعادته بائع الـ"لوتو"، الذي كان يردّد عبارته المشهورة "اليوم السحب"، أخذ مروان ورقة، اختارها عشوائياً من يد بائع، هو الآخر لديه أحلاماً يتمنى أن تتحقق، كما تحققت أحلام كثر على مرأى من عينيه. خلال هذه الحقبة، أحوال مروان المادية كانت حرجة، قبيل أسبوع، سرقت دراجته النارية، وكان يتنقل من عمله إلى منزله في منطقة فردان عبر سيارة الاجرة، أو سيراً على الأقدام، لسوء ظروفه المعيشية.

في اليوم عينه، غادر مروان عمله قاصداً منزل صديقه في محلة كورنيش المزرعة، وخلال حديثه مع والد صاحبه، سأله الأخير عما إذا تابع سحب الـ"لوتو" اليوم، أجاب مروان بالنفي، فطلب منه يومذاك الاطلاع على الورقة الموضوعة على الطاولة، حيث دوّن عليها الأرقام الفائزة. أخرج مروان الورقة الـ"لوتو" من جيبه، وصار يتتبع الأرقام، الرقم الأوّل، الثاني، وهكذا دوليك، وصل إلى الرقم الخامس، وتوقف نظره عن الامعان، حالة من الدوران راودت مروان، لم يعد يعي ما ترى عيناه، أوّل كلمة تلفظ بها "الحمد الله صار فيني أعمل عملية لبيّ"، قاطعه رب البيت قائلاً "صبت رقم 41، مروان إنت ربحت اللوتو"، لازم مروان مكانه لمدة دقيقة من دون أن ينطق بحرف، أخفض رأسه، وألقى بنظره إلى الأرض، محاولاً إخفاء دموعه الصادقة.

آزر مروان أهله لاجراء العمليات الجراحية التي كانت تلزمهما، لكون والده كان يعاني من تشوه في وجهه، كما ساعد شقيقه ودفع تكاليف المبنى الذي قام بإنشاءه في منطقة الشوف، حيث تقيم عائلته. لم يكتف مروان بذلك، بل أنشأ أيضاً مؤسسة إعلامية صغيرة، وافتتح محلاً يُعنى بتقديم الوجبات السريعة في منطقة عين التينة. لكن طيبته الزائدة والمفرطة أحياناً، إضافة إلى ثقته العمياء بأصدقائه المقرّبين منه، والذين قدم لهم المساعدة بشتى الوسائل الممكنة التي كانت متوفرة لديه، أودت بأوضاعه المادية إلى ما لا يحمد عقباه. زوّر أصدقاء مروان إمضاءه، ومضوا على كشوفات تُعنى بقروض من المصارف وغيرها. مروان المؤدب الذي يتجنّب افتعال أي إشكال مع أحد، دخل المحاكم لأوّل مرة، والمبالغ الطائلة التي كسبها من مخازن الـ"لوتو"، صرفها في إطار الدعوات القضائية التي وجّهت ضده. اليوم، يقضي مروان أوقاته بحذر ممن حوله، خوفاً من أن تتدهور أوضاعه المادية التي عادت إلى طبيعتها، لكنه لا يزال يلعب الـ"لوتو" من أجل استرجاع خسارته، رافضاً مساعدة أحد، حال فاز بالجائزة الكبرى مرةً جديدة.  

نسبة المشاركة في اللوتو ارتفعت بنسبة 15%     أكد مدير عام الـ"لوتو" اللبناني جورج الغريب، في اتصال مع "النهار"، أنه "كلما كبر حجم الجائزة الأولى في المسابقة، ارتفعت نسبة الاقبال على السحب يومي الاثنين والخميس"، لافتاً الانتباه إلى أن "الأوضاع الاقتصادية في البلاد تؤثر على حركة إقبال الناس على اللوتو، خاصةً إذا كان السحب سيجرى في النهاية الشهر"، مضيفاً أن "العام 2016-2015 شهد نمواً بنسبة 15% في إقبال المواطنين على سحب اللوتو، بفضل الجائزة الأولى التي وصلت لمرتين على التوالي لأكثر من 5 مليارات ليرة لبنانية". وقال إن "بداية الحرب في سوريا في آذار العام 2011 أثّرت نسبياً على مشاركة الناس في اللوتو"، مشيراً إلى أن "عامل التجاذب السياسي بين الأفرقاء اللبنانيين ووقوع أي حادث أمني في البلاد، يؤثر بشكل سلبي على نسبة المشاركين". وختم الغريب الذي اعتبر أن الـ"لوتو" صار جزءاً من أولويات المواطن اللبناني وراسخاً في حياته الاجتماعية، بالحديث عن حادثة ظريفة حصلت مع أحد الفائزين بالجائزة الأولى للسحب، إذ فاز أحد المشاركين اللبنانيين منذ أربع سنوات بالجائزة الكبرى، يومها ظهر على شاشة التلفاز واستلم جائزته بشكل مباشر على الهواء، لكن بعد مرور الفترة المذكورة، عاد وفاز بالجائزة الأولى، إلا أنه رفض هذه المرة الظهور العلني عبر وسائل الاعلام المرئية، خوفاً من أن تتكرر ذات الأحداث التي جرت معه في المرة السابقة، بعد أن تداولت بعض المواقع الاخبارية خبر فوزه وذكرت إسمه وعائلته.    

الواقع المادي السيئ يشجع على لعب الـ"لوتو"     أستاذ علوم الاجتماع في الجامعة اللبنانية طلال عتريسي اعتبر في حديث مع "النهار"، أن "المواطن اللبناني يشارك في سحب اللوتو الذي يجري مرتين كل أسبوع، بهدف إيجاد حلٍّ للمشكلات المادية التي تعصف به"، مؤكداً أنه "من الممكن أن يصل إلى مرحلة الادمان، لأن المسابقة التي يشترك بها تعتمد على الفوز السريع، والانسان في فطرته يطمح بقوّة إلى الربح من دون بذل أي جهد معيّن من قبله". وأضاف أن "ألعاب اليانصيب أو اللوتو المندرجة في خانة واحدة، تدفع الانسان إلى التعلق بالحظ، على قاعدة إن لم يفز هذه المرة، قد يفوز في المرة المقبلة وإن كانت حظوطه متواضعة"، مشيراً إلى أنه" في هذه الحالة لا يجد المشارك نفسه أمام حاجز يحول دون تحقيق أوهامه وآماله بسبب واقعه المادي السيئ".  

  الشارع اللبناني مستاء من حظوظه في السحب     "العالم طفرانة، الجائزة مبارح وصلت إلى 5 مليارات وسبعة مئة مليون بس ما حدا معو يقطع"، بهذه الكلمات عبّر صاحب مركز الـ"لوتو" نبيل دمشقي عن الأحوال المادية المستعصية لأهالي منطقة بيروت، مؤكداً أنه "لا يلعب اللوتو، لأن الورقة الخاسرة التي سيسحبها بمبلغ 2000 ليرة لبنانية، تحرمه من شراء ربطي خبز تكفي عائلته لمدة يومين". ماهر الخطيب، سائق سيارة الأجرة (57 عاماً)، قال إنه "يلعب اللوتو منذ العام 1997، لكن لم يحالفه الحظ لمرة واحدة خلال السنوات الماضية"، مشدداً على أنه "سيواصل المشاركة في السحب، لعل الحظ يبتسم له ويشتري لأولاده منازل قرب سكنه في العاصمة". لاعب كرة السلة في نادي "هوبس" زياد الناطور الذي باشر لعب اللوتو منذ العام 2010، أكد أنه سيواصل عمله بشكل طبيعي، في حال فاز باللوتو"، كاشفاً أنه "فاز مساء أمس للمرة الأولى، بقيمة مالية قدرها 70 ألف ليرة لبنانية بعد مشاركته في مسابقة ""yawmieh.     ورقة الـ"لوتو" تحل مشكلة فرد أو عائلة على أكثر تقدير، لكنها لا تعالج أزمة مجتمع. لو كنا نحيا في دولة متحضرة تحترم حقوق المواطن، ولا تقبل بالانتهاكات الخارجية، ولا تنتظر التطورات الميدانية في الدول المجاورة من أجل انتخاب رئيساً جديداً للبلاد، لما شاهدنا جموعاً تقف في الصف قبالة مراكز الـ"لوتو"، ولما أشفقت عليهم شركات الانتاج وأصدرت الاعلان الغنيّ عن التعريف "انا عملتا هون". للأسف في هذا الوطن، صار المواطن ينتظر ورقة كي تتحقق أحلامه، وإذا شكى أحد اللبنانيين همّه، يرد عليه آخر قائلاً "بسيطة بكرى السحب".

النهار