يحق للشعب الإيراني أن يختار النظام الذي يناسبه، ولسنا في وارد البحث من سيختار الشعب ومن سيرفضه ومدى اقتناع الإيرانيين عموما بنظام ولاية الفقيه، ولا الدخول في نقاش هذه الولاية في حدود صلاحياتها المطبقة في إيران، وهل هي دستورية أم إلهية؟ نكتفي بالتأكيد على احترام خيارات الشعب الإيراني أو سواه في ما يتبناه من نظام دستوري وقانوني لإدارة شؤونه الوطنية أو القومية.
لكن من حق المجتمعات والدول خارج إيران أن تدخل في زاوية نقاش التداعيات التي تسببها هذه الأيديولوجيا على وحدة المجتمعات وعلى أمن الدول، وآثارها على مسألة الولاء السياسي المتصل بنظام المصالح الوطني أو القومي، وبالتحديد على موقع مفهوم الدولة في هذه المنظومة التي تتعارض مع سيادة الدول ووحدة الشعوب.
ليس خافيا أن الأدبيات التي تتناقلها الأجيال، في المجال الشيعي العام وعلى مستوى المدرسة الفقهية، تركز دائما على أن أحد أهمّ أركان التشيع هو الاجتهاد، ودائما ما يسمع الكثيرون أن باب الاجتهاد مفتوح في المذهب الشيعي، لكنه موصد في المذاهب الأخرى.
أيا تكن صحّة هذه المقولة المنتشرة، باعتداد، في أوساط شيعية واسعة، لكنني أقرب إلى الفكرة القائلة إنّ العلاقة مع الإسلام ومذاهبه تحوّلت في زمننا الحالي إلى علاقة صنمية، حوّلت المجتهدين العظام الأوائل، المؤسسين للمذاهب الإسلامية، إلى ما يشبه الأنبياء. بحيث يتحوّل التفسير الذي قدّمه هؤلاء للنص القرآني أو السنة النبوية، في زمانهم، إلى نصّ مقدّس في زماننا. علما أنّ المسلمين يعتقدون، وأنا منهم، أنّ النصّ القرآني والسنّة هما لكل زمان ومكان، بمعنى أنّ قابلية النص للصمود بل في اختراقه الزمن، تكمن في أنه نص مفتوح على قراءات متعددة، تحكمها أدوات المعرفة التي تتطور، والتطورات الاجتماعية والاقتصادية التي تفرضُ فهما متجددا للنص القرآني وللسنة.
فمن حيث العقيدة والمبدأ والمنطق المسلمون اليوم معنيون، كما كان أسلافهم، بتقديم فهمهم واكتشاف أبعاد جديدة للإسلام في كل عصر. ففي تعبير عميق وشفّاف نقله الشاعر التركي الشهير محمد إقبال عن والده، قال له وهو لم يزل طفلا “يا بني، وأنت تقرأ القرآن، تعامل مع آياته وكأنها تتنزل عليك من الله للتو”. في هذه الرسالة التربوية ما يجب التقاطه، وهو أنّ الإنسان يجب أن يكون حرّا غير مقيد إلاّ بشروط المعرفة وشرطي العقل والقلب حين يتلقّيان النصّ الإلهي. فالقرآن لم ينزل لنخبة بل هو لكلّ الناس، وهذا ما يفرض على الإنسان، أو المسلم الفرد، مساحة حرّة في التفاعل معه من دون حواجز وممرّات إلزامية وقيود تحوّل النص القرآني من نصّ إلهي متجدد الفهم إلى نصّ جامد حرفيّ محكوم بتفسير نهائي كان أبدعه المفسرون الأوائل خلال زمانهم.
من هنا يمكن القول إن باب الاجتهاد مغلقٌ في حياة المسلمين وفي مدارسهم الفقهية، ومهمة التجديد الحضاري الإسلامي، تبقى مهملة. بل إنها مهمة تتربص بها الأيديولوجيا بدل التفكير، وتُهَم التكفير بدل الحوار. الحوار بالمفهوم الذي تعبّر عنه الآية الكريمة “وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ”.
نخلص ممّا سبق إلى القول إنّ الأيديولوجيا التي روجت لها منظومة ولاية الفقيه، قامت على قمع ما يُقابلها، وتمّ تسخير كل الإمكانيات السياسية والمالية والعصبية من أجل فرض مسارها على أوساط واسعة لدى الشيعة. هذه الولاية التي قامت في جوهرها السياسي على تثبيت الولاء السياسي أولا للقرار الصادر من إيران، من خلال إضفاء البعد الديني على هذه القرارات. ففي منظومة الأيديولوجيا هذه يصبح الولاء للفقيه الحاكم في إيران، ضمن كل الشؤون العبادية وفي المعاملات أو الشؤون السياسية والعامة، أمرا واجبا، ولا يحول دونه أيّ ولاء للدولة أو أيّ عقد اجتماعي قائم بين المواطن والسلطة. وهذا ما يجعل حزب الله في لبنان، على سبيل المثال، مؤمنا في بنيانِه الأيديولوجي، وهو ما يربي الناشئين ومحازبيه عليه، أنّ تنفيذ أمر ولي الفقيه واجب ولو كان ذلك على حساب نظام المصالح الوطني، ولو كان فيه تجاوز للقانون وللدستور أو للعقد الاجتماعي الذي يلزم أطرافه بواجبات ويؤمن لهم حقوقا.
هذه الأيديولوجيا، بالطبع، تتنافى مع مفهوم الدولة والمواطنية. ويحاول حزب الله أن يقول للبنانيين، في تبرير غير موفق، إنّ ولي الفقيه السيد علي خامنئي يعطينا صلاحية التقرير في الشؤون الوطنية ولا يلزمنا بما لا نقتنع به. وإذا افترضنا صدق هذا القول، فإنّه يتهاوى حين تصبح الإجابة هي الصمت على سؤال “ماذا لو قرر ولي الفقيه ألاّ يعطي هذه المنحة؟ فهل في أيديولوجية الحزب ما يسمح بالخروج على رأي الفقيه؟”، نجيب: بالتأكيد لا. فالراد على ولي الفقيه كالراد على الإمام والنبي، كالراد على الله.
لكن في زمن تندرج فيه الدولة الإيرانية بشروط النظام الدولي، وقواعد العلاقات الدولية، وتعقد الاتفاقات باسم الدولة، تمنع على أتباعها في الدول، حيثُ أسست مجتمع ولاية الفقيه، وأرست قواعد للولاء قائمة على تلك الأيديولوجيا، احترام شروط الدولة وقواعدها، وتصرّ على أن تبني لها كيانات أيديولوجية وأمنية وعسكرية تنتمي إلى نظام مصالح منفصل عن الدولة والمجتمع، كما هو الحال في اليمن أو لبنان أو العراق. هي عقلية تنتمي إلى منهج النفوذ من خلال أيديولوجيا تتعارض مع الدولة، وهو منهج يتناقض مع الشراكة، باعتبار أنّ المطلوب إيرانيا دوائر نفوذ أمنية عسكرية موالية وتابعة، انطلاقا من أنّ الشراكة مع الدول تقوم على نظام مصالح مشترك تحكمه شروط العلاقة بين الدول المستقلة وذات السيادة.
يمكن إعطاء نموذج لعدم احترام الأيديولوجيا الإيرانية مفهوم العلاقات بين الدول من خلال الإشارة إلى تمددها خارج إيران. لا تحترم العلاقة بين مؤسسات دستورية وقانونية يرعاها القانون الدولي. فإيران لم تبنِ علاقات وثيقة مع دول، بل دائما كانت تبني علاقة مع فئة، ولم تبنِ علاقات وثيقة مع شعب، بل دائما اتجهت نحو طائفة أو إثنية، واستثمرت في الانقسام داخل الدول لا في وحدتها، ولعلّ التجارب على هذا الصعيد أكثر من واضحة وفاضحة في آن. وغنيٌ عن القول والتأكيد أنّ أيديولوجيا ولاية الفقيه لا تُعتبر من عقائد الشيعة، بمعنى أنّ من لا يؤمن بأيديولوجيا ولاية الفقيه التي تحكم إيران لا يخل بانتمائه إلى المذهب الشيعي. وهي نظرية سياسية غير قابلة للحياة لأنّ إيران نفسها مصدّرة هذه النظرية لا تقبل في دستورها أن تطبق صلاحية ولي الفقيه على أراضيها، إذا كان ولي الفقيه في العراق أو لبنان أو اليمن، أي خارج إيران.
صحيفة العرب