«يوم جديد» شهدته العلاقات الكوبية ـ الأميركية، أمس، بحسب توصيف الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي أمضى ثانية لياليه الكوبية في قصر شيّدته الولايات المتحدة في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، ليكون نموذجاً لـ «القوة الناعمة»، ومظهراً للثراء الباذخ، في جزيرة كانت تُعدّ حديقة خلفية للولايات المتحدة.
ومن شبه المؤكد أن القصر القديم، الذي تتجاوز مساحته البيت الأبيض بقليل، قد وفّر للرئيس الأميركي إقامة هادئة في ليالي هافانا الماطرة، التي باتها بين جدران مرمرية وأرضيات وأعمدة رخامية فخمة، تذكّر بأفخر المقار الديبلوماسية الأميركية في لندن وباريس وبوينس أيرس.
ومن شبه المؤكد، في المقابل، أن الساعات القليلة التي أمضاها الرئيس الأميركي في قصر الثورة في هافانا كانت مختلفة، خصوصاً بعدما أصرّ مضيفه الكوبي، الرئيس راوول كاسترو، على نقل الخلافات المرتبطة بقضايا «حقوق الإنسان» إلى العلن، متحدياً ضيوفه، بمن فيهم أوباما، أن يذكروا اسم شخص واحد مسجون سياسياً ليصار الى إطلاق سراحه قبل منتصف الليل.
وبصرف النظر عن هذا الخلاف، الذي قد يشكل محور التعقيدات في العلاقات الكوبية ـ الأميركية في مرحلة الانفتاح السياسي والاقتصادي، فإن اللقاء بين أوباما وكاسترو تضمن إشارات إيجابية بشأن المضي قدماً في مسيرة التطبيع، الذي تفترض الحكومة الكوبية أنه سيقود في نهاية المطاف إلى رفع الحصار عن الجزيرة الشيوعية.
وفي اليوم الثاني من زيارته هافانا، تحدث أوباما عن «يوم جديد» في العلاقات بين واشنطن وهافانا، مع إقراره باستمرار وجود «خلافات» فعلية بين الجارين اللدودين.
وقال أوباما، بعد محادثات مع كاسترو في قصر الثورة في هافانا، إن مستقبل كوبا «سيقرره الكوبيون»، لكنه شدد على أن بلاده ستواصل إجراء «محادثات صريحة» مع السلطات الكوبية حول المسائل الخلافية.
وأضاف «أجرينا مشاورات جيّدة حول قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان»، مضيفاً «آمل أن تُظهر زيارتي مدى استعدادنا للبدء بفصل جديد في العلاقات الكوبية الأميركية».
وبالرغم من أن أوباما أشاد بـ «روح الانفتاح» التي يتحلى بها نظيره الكوبي، فقد شهد ردوداً حادة من جانب الأخير، حين وجه إليه صحافي أميركي سؤالاً عن المعتقلين السياسيين في كوبا.
وجدد الرئيس الأميركي دعوة الكونغرس إلى رفع الحظر المفروض على كوبا، ولو بشكل غير مباشر، حين قال إن «قائمة الإجراءات التي يمكننا اتخاذها على الصعيد الإداري تقلصت إلى حد كبير والتغييرات تبقى اليوم رهناً بالكونغرس».

وأعادت الولايات المتحدة وكوبا العلاقات الديبلوماسية في تموز العام 2015، بعدما شطبت واشنطن في شهر أيار الدولة الشيوعية من لائحة الدول التي تدعم الإرهاب. لكن الخلافات لا تزال كبيرة بين العدوّين السابقين إبان الحرب الباردة.
من جهته، قال راوول كاسترو إن بوسع البلدين تطوير العلاقات إذا رفعت الولايات المتحدة العقوبات التجارية القائمة منذ 54 عاماً.
وفي رد على سؤال بشأن السجناء السياسيين، طالب كاسترو غاضباً بإبراز قائمة بمثل هذا النوع من السجناء، مؤكداً موقف كوبا بعدم وجود سجناء سياسيين لديها.
وقال كاسترو «هل هناك سجناء سياسيون؟ قدموا إليَّ لائحة بهم كي أفرج عنهم فوراً... أعطوني الاسم أو الأسماء، فإذا كانوا موجودين فعلاً، فسيُفرج عنهم قبل حلول الليل».
واعتبر كاسترو أن على كوبا والولايات المتحدة أن «تقبلا وتحترما الخلافات (بينهما)، وألا تجعلا منها محور علاقاتنا»، داعياً إلى «تعزيز الصلات التي تعطي الأولوية لمصلحة البلدين والشعبين».
ومع ذلك، أشاد كاسترو بخطوات أوباما للانفتاح، قائلاً «نحن ممتنون لموقف الرئيس أوباما وحكومته ودعواتهما المتكررة للكونغرس من أجل رفع الحظر»، مشيراً إلى أن الإجراءات الأميركية الأخيرة لتخفيف الحظر «إيجابية لكنها غير كافية».
وكان أوباما قد تحدث عن خلافات عميقة قائمة بين واشنطن وهافانا، إذ قال، في مقابلة مع شبكة «اي بي سي»: «كنا ننوي على الدوام خلق دينامية مع إدراكنا أن التغيير لا يحصل بين ليلة وضحاها».
واضاف «حتى لو أن خلافاتنا العميقة ما زالت مستمرة حول حقوق الإنسان والحريات الفردية في كوبا، دائماً ما اعتبرنا أن المجيء إلى هنا سيكون أفضل وسيلة للتشجيع على مزيد من التغيير».
وكان أوباما قد أمضى الليلة الأولى في هافانا سائحاً في شوارعها القديمة.
ووجه الرئيس الأميركي تحية إلى خوسيه مارتي، صانع الاستقلال الكوبي عن الاستعمار الإسباني، حيث وقّع في سجل الزوار أمام تمثاله في وسط منطقة المباني الحكومية في هافانا.
ومارتي شاعر وكاتب عاش في القرن التاسع عشر ساهم نشاطه في حصول كوبا على حريتها من إسبانيا وتبنى الثوار إرثه بعد ذلك كرمز لمقاومة «الإمبريالية».
كما قام بجولة في إحدى الساحات الكبرى في العاصمة الكوبية التي تحتضن مجسمين للقائدين الثوريين أرنستو تشي غيفارا وكاميلو سيينفويغوس.
لكن الجولة السياحية للرئيس الأميركي في شوارع هافانا لم تكن خالية تماماً من السياسة، فأثناء تجوله، وسط عدسات السياح الذين كانوا يلتقطون الصور للرئيس الضيف، صاح أحد الكوبيين قائلاً: «يسقط الحظر»... فرد أوباما برفع يده اليمنى.
(«السفير»، ا ف ب، رويترز، اب)