تلتقي اليوم في ربوعنا ثلاث مِحن كبرى وتتضافر: محنة الصحافة المطبوعة، وهي ذات نطاق كونيّ، ومحنة المال العربيّ مع تراجع أسعار النفط والإنفاق على تمويل عدد من الحروب والنزاعات الإقليميّة، ومحنة الاقتصاد اللبنانيّ التي تنعكس، في ما يعنينا هنا، تراجعاً حادّاً في الإعلانات وتقلّصاً في القدرة الشرائيّة للمواطنين.

 

 

وإذا كان الحدث الأوّل تطوّراً مفيداً ولا بدّ منه، فإنّ التقاءه بالحدثين الآخرين يعجّل في طرح خصوصيّة لبنان حيال وضع تشكّله المحن هذه. ذاك أنّ إغلاق الصحف والشائعات عن إغلاقها تنشر في سماء بيروت غيوماً سوداء كثيفة لا تترك للأمل فسحة كبيرة.

 

 

ففضلاً عن الواقع المؤلم مجسّداً في دفع أفراد عديدين وعائلات كثيرة نحو البطالة، وسط أجواء ترقى إلى ضمور كامل في سوق العمل الإعلاميّ، يحيط بالحرّيّة والديمقراطيّة في لبنان مزيد من الأسئلة الوجوديّة: إذ كيف تقوم لهاتين القيمتين قائمة من دون "سلطة رابعة" تراقب وتدقّق؟ وكيف ندبّر، بعد اليوم، المعادلة الصائبة التي تقول إنّ لا معنى للبنان من دون الحرّيّة؟

 

 

ولئن وُجدت دائماً ملاحظات وجيهة وكثيرة على الديمقراطيّة والحرّية في هذا البلد، كما على الإعلام اللبنانيّ ودوره، فالمؤكّد أنّ انهيار الاثنين انهياراً شاملاً ليس إلاّ خسارة إضافيّة يتكبّدها عموم اللبنانيّين.

 

ذاك أنّنا، والحال هذه، نجني إنقاص الحرّيّة والديمقراطيّة والإعلام بدل أن نأمل بتطويرها وتحسين جودتها. وكم تزداد الصورة قتامة حين نعطف هذا المستجدّ الخطير إلى كلّ ما نعرفه من شغور وتعطّل يضربان المؤسّسات الدستوريّة من غير استثناء، فضلاً عن تفشّي الأحقاد الطائفيّة وانتشار السلاح، خصوصاً سلاح حزب الله الذي تفوق قوّةُ دولته قوّةَ الدولة اللبنانيّة.

 

 

لكنْ علينا أيضاً، تحت وطأة كارثة كهذه، أن نتساءل: أيّ دور للبنان بعد اليوم وأيّة وظيفة؟ فإذا كانت الوظيفة التي عشنا عليها منذ 1943 على وشك الانتهاء، فهل يمكن أن يعاد اختراع هذه الوظيفة، وكيف يكون ذلك؟

 

 

ما من شكّ في أنّنا معرّضون هنا لإجابات سهلة سوف تهبّ علينا بعد حين، من نوع أنّنا ندفع كلفة أخرى من أكلاف الدور الخدماتيّ الوسيط، وأنّ الوظيفة التي اضطلع بها لبنان هي التي ورّطته في آخر المطاف. ويذهب بنا الظنّ إلى العكس تماماً، وهو أنّ تلك الوظيفة (والوظائف الاقتصاديّة ليست عيباً في أيّ وعي نفعيّ) إنّما أجّلت كثيراً مواجهة لبنان، الفقير بالموارد، لأزماته. وهل لأحد أن يتخيّل لو أنّنا قضينا ذاك الزمن نصارع بناء اقتصاد صناعيّ (مستحيل) ونتوهّم ازدهار الصحافة والحرّيّات في كنفه؟

 

 

أغلب الظنّ أنّ المسألة تقيم في مكان آخر تماماً، أقلّه في ما خصّ الوضعين اللبنانيّ والعربيّ. فهنا يتوجّه الاتّهام أساساً، وليس حصراً، إلى صعود الهويّات والأديان والطوائف الذي يدمّر المنطقة وما تبقّى فيها من ثراء، فيما يُضعف قيمتنا في هذا العالم ومدى اكتراث هذا العالم بنا. أمّا الوسيط فيصعب أن يكون له الدور الذي يرتجيه فيما المنطقة التي هو وسيطها مندفعة إلى الموت بهمّة وخفّة منقطعتي النظير.