لم يُصدّق أيّ مِن الخبراء العسكريين أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحبَ قواته من سوريا. فهو لم يحقّق الأهداف التي استدعت حملته الجوّية، وهناك من يميّز بين السياسية منها التي أرادها فحقّقها، وبين العسكرية المستحيلة. ولذلك هناك من يشير إلى مرحلة أخرى قد تفتح الطريق أمام «رعد الشمال» للتعاون في مواجهة الإرهاب. فما الذي يقود إلى هذه التوقّعات؟

مَن احتفلَ بالانسحاب الروسي من سوريا معتقداً بتخلّي موسكو عن النظام السوري لم تكتمل فرحتُه. فبعد ثلاثة أيام على بدء إجلاء القوات الإضافية التي لم يعُد لها أيّ دور، توقّف أمس الأوّل عند مضمون خطاب بوتين الذي وجَّه رسالةً قاسية ومختصرة إلى مَن اعتبر مِن خصومه أنّه أخلى الأجواء السورية بالقول: «إذا عدتم عدنا». وأضاف مهدّداً «إنّ القوة التي انسحبَت يمكن أن تعود إلى مسرح العمليات العسكرية في غضون ساعات قليلة».

كان بوتين يتحدّث بكل ثقة في حفلة تكريم العسكريين العائدين من سوريا، عندما قال بعبارات قليلة وحاسمة إنّه في حال الضرورة «يمكن روسيا أن تعزّز وجودها في المنطقة إلى مستوى يتلاءم مع تطوّرات الوضع هناك». الأمر الذي فتح الباب أمام الخبَراء العسكريين لإجراء قراءة متقدّمة للظروف والخلفيات التي دفعَت بوتين إلى قراره في شأن سوريا ومستقبل الدور السوري فيها وحجمِه.

وقال أحد الخبَراء إنّه كان يتوقع الأشهر الستّة مهلة كبرى أمام روسيا لتحقيق أهدافها في سوريا لأسباب داخلية تتحكّم بها.

فالظروف الاقتصادية التي تعيشها روسيا لا تَسمح لها بعملية واسعة أكبر ممّا أنجزته، وهي كافية لتحقيق الأهداف السياسية دون العسكرية المستحيلة للأسباب الآتية:

– كان بوتين يحتاج إلى عمل عسكري استثنائي لحماية آخِر مواقعه العسكرية على الساحل السوري المطلّ على مياه المتوسط الدافئة، وحماية النظام السوري بعدما بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط الشامل بمجرّد أنّ دمشق باتت تحت مرمى النيران وكذلك مدن الساحل السوري.

– كان بوتين يحتاج إلى الدخول في المواجهة مع الحلف الدولي من ضمن شروط اللعبة، ومن باب الحرب على الإرهاب تحديداً، فيخرق فصولَ العقوبات الدولية التي واجَهته بعد وضع اليد على شبه جزيرة القرم، وإنّ النفاذ منها له طريق واحد وهي بمشاركته الحلف هذه الحرب.

– إنّ روسيا التي عادت الى المسرح الدولي لا تريد أن تتوغّل كثيراً في تفاصيل الأزمة السورية وزواريبها الداخلية، ولا تريد مواجهة عدد من دول الحلف الدولي ولا سيّما منها السعودية التي لها معها عددٌ من العقود لبناء محطات نووية فيها، ولولا إسقاط الطائرة الروسية فوق جبل التركمان في تشرين الماضي لربّما كان بوتين قد تجاهلَ «تأديب تركيا».

وعليه، فقد نجَح القيصر الروسي في تحديد ساعة دخوله المعركة السورية وساعة الخروج منها في توقيت مثالي. تحت شعارات وعناوين أدخلته الحلفَ الدولي بلا شروط مسبَقة، فاستسلم الجميع لدوره وأقرّوا له به.

فدخلَ لتحاشي سقوط دمشق ولمنع المجموعات السورية من الوصول الى الساحل السوري. وخرج جزئياً من المستنقع قبل أن يغرق فيه بعد تأمين الحد الأدنى من الحفاظ على الدولة السورية ومؤسساتها العسكرية من دون ان يعيد لها السيطرة على كلّ الأراضي كما أرادت.

وفي القراءة المزدوجة للعملية الروسية بوجهيها السياسي والعسكري يصرّ الخبراء العسكريون على أنّ المسقبل القريب مفتوح على أشكال وسيناريوهات جديدة مختلفة عن تلك التي عبرت حتى الآن. فالإصرار على تقديم الحلّ السياسي على العسكري دونه عقبات كبيرة، ما قد يقود لاحقاً إلى البحث عن حلّ للقضاء على الإرهاب، وهو ما يدفع الى البحث في سُبل إنهاء «داعش» وأخواتها من «جبهة نصرة» ومجموعات إرهابية.

وطالما إنّ بويتن يصرّ على المضيّ في الحرب على الإرهاب، فلا بدّ من صيغة جديدة تُبقي روسيا في المواجهة، مع استعدادها لدخول الحلف الدولي بحكم وجودها في المنطقة، وهو ما قد يفتح الباب أمام تفاهم جديد مبني على تفاهم أميركي ـ روسي لتشكيل القوّة العسكرية التي ستطيح «داعش» وأخواتها في الأراضي السورية.

وأمام هذا السيناريو الجديد يَستذكر الخبراء العسكريون مشروع تشكيل «القوة السنّية» المقترحة والتي ستتولّى المهمة العسكرية هذه. فهل تَفتح المفاوضات المقبلة الطريق أمام دوَل «رعد الشمال» التي أنجَزت أكبر مناورة للتنسيق بين مجموعة من 20 دولة سنّية أبدت استعدادها للدخول في المواجهة مع «داعش»، وهي أنجَزت تدريباً بين جيوش من معتقدات وثقافات متعدّدة.

لا يَستبعد الخبَراء العسكريون مثلَ هذا السيناريو، و لكن أمام المضيّ فيه أو عدمه محطات عدّة، أبرزُها الزيارة التي يستعدّ لها الرئيس الأميركي بارام اوباما للرياض في 21 الجاري للقاء ملوك دول مجلس التعاون الخليجي وأمرائها، والتي تتزامن مع السعي لترتيب زيارة للرئيس الإيراني حسن روحاني إلى العاصمة السعودية، وعلى وقع الاستعدادات للّقاء في موسكو بين بوتين والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز منتصف الشهر المقبل، فما الذي ستنتِجه كلّ هذه الحركة إذا توحَّد القادة على عنوان مواجهة الإرهاب؟

 

 

 

 

 

(الجمهورية)