لم تكن الدولة التي حلم بها الإمام الحسين عليه السلام، وسعى بادئ الأمر إلى تحقيقها سوى أنموذج من هذه اليوتوبيات السياسية والاقتصادية والإجتماعية والتربوية والدينية التي أبدعتها المخيلة البشرية ،بالرغم من أنه يتفق مع هذه المدن الفاضلة في جملة من المبادئ ، ويختلف معها في مبادئ أخرى.
وإذا كانت تلك المدن قد بقيت بمعظمها حبيسة الورق والحبر ،ولم يتحقق منها في الواقع غير مفاهيم محدودة ،فإن ملامح دولة الحسين مرسومة في عقيدته وسلوكه وكلماته ، وفي المفاهيم والمبادئ والقيم التي سعى إلى ترسيخها، مستندا إلى منهجه في فهم القرآن والسنة ،إذ انطلق من رؤيته التي انصبت على الفرد ، وتدرجت إلى الأسرة ، لتصل إلى المجتمع بصورة عامة .
ولم تكن عنايته بعملية تغيير العقلية البشرية وإصلاحها وتطويرها على صعيد مشروعه النهضوي تكليفا أو إجراء يسيرا ، بل كان غاية في الصعوبة والتعقيد ، لاشتماله هذا المشروع على قضيتين : إحداهما : إصلاح المفاهيم التي حرفت ، ففرغت من دلالاتها الأصلية ، ونفخت فيها روح دلالية تلفحها حرارة الأهواء والمصالح.
لذلك ،نجد أن الإمام يسم القوم في كربلاء ب"شذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان ، ومحرفي الكلام، ومطفئ السنن" وليست مهمة إصلاح هذه المفاهيم التي تبلور لها مدلول آخر بالأمر المتاح عادة ؛ لأنه يحتاج إلى جدل فكري ومنهجي مصحوب بجدية النضال والتضحية.
والثانية : تطبيق تلك المفاهيم وترسيخها وممارستها على أرض الواقع ؛ لأن أزمة عدم الإنسجام بين القول والفعل ، أو بين التصور والممارسة ، كادت أن تتحول إلى ظاهرة عامة في ذلك المجتمع ،يصاحبها إهمال الأمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ، فضلا عن الإنزياح بين قراري القلب واليد. وقد أعلن الإمام عن ذلك بقوله :" ألا ترون أن الحق لا يعمل به ، وأن الباطل لا يتناهى عنه ؟!
ليرغب المرء في لقاء الله محقا ؛فإني لا أرى الموت إلا سعادة ،ولا الحياة مع الظالمين إلا برما ".
قدم الإمام الحسين دمه ودماء أهل بيته وأصحابه على مذبح الفداء بغية إصلاح عقلية المسلمين بصورة خاصة ، فكسا مشروعه رمزية فوق دائرتي الزمان والمكان ، مكتفيا بهذا المقدار المتاح له.
إن تصور مفهوم الدولة العادلة الذي كان راسخا في مخيلة الحسين(ع)، مستقى من النص القرآني ،ومن السنة النبوية ، ومن سيرة جده وأبيه وأخيه .
فرئيس المدينة العادلة هو ذلك الحاكم المسؤول الخادم الذي يقدم حياته وعمره ووقته وجهوده وكل ما يمتلكه من عناصر قوة ، خدمة للشعب والدولة والقانون ، وليس من أجل أن يعتز بالسلطان ،أو أن يضع حوله الحرس والخدم والخول ،وأن يستعبد الناس ويذلهم .
ولم تتبلور معالم هذه الصورة عند الإمام في إطارها النظري المستند إلى نصوص القرآن والسنة فحسب ، والتي تدعو الراعي إلى أن يساوي نفسه بالرعية ، وأن يمثل أمام تعاليم الشريعة بلا تكبر أو خصوصية أو تمييز ، وإنما أرفدتها تلك الصورة الواقعية التطبيقية التي تجسدت في حكومة أبيه ،حيث كان يعيش مع الناس أفراحهم وأتراحهم ،فلا يؤثر نفسه عليهم ، ولا يحتفظ بمال أو ثروة أو حرس، بل زهد بالإمرة أو الخلافة إلى الحد الذي رأى فيه النعل أحب إليه منها ، إلا أن يقيم حقا أو يدفع باطلا ..
خبزت هذه الثقافة العلوية مخيلة الحسين (ع) ، فكانت رافدا أصيلا لصورة الدولة العادلة التي طمح إليها .لذلك ،غدا من الطبيعي أن يشاهد البون الشاسع بين واقع المجتمع الإسلامي من جهة ، وما يتوخاه الإسلام في تعاليمه من جهة أخرى...
دكتور حسن رضا