صدق وضاح شرارة عندما وصف حالة حزب الله منذ أكثر من عشرين عاماً بأنّ قيادته تملي على اللبنانيين ما يصلح لهم ويليق بهم : قتالا وأحلافاً وأحوالاً ومشاعر وعداوات.وهي تضيف صفة المسلّمة العامة إلى ما تراه هي وتحتسب منه مصلحة ومنفعة.فإذا أدت هذه إلى وصاية سياسية ثقيلة على الدولة اللبنانية، وإلى تصديع أبنية المجتمع اللبناني تحت وطأة تصريف وتحكيم خارجيين لا يراعيان أعرافه ولا معاييره،لم ينفك الحزب الخميني، ومعه رهط من "الموالي" وأصحاب الريوع من تسمية فعله مقاومة وكرامة وانتصاراً.
هذا التوصيف ورد في مقدمة الطبعة الثالثة لكتابه (دولة حزب الله،لبنان مجتمعا إسلامياً). وهي لم تكن متحققة قولا وفعلا عام ١٩٩٦، تاريخ صدور الطبعة الاولى من الكتاب، فقد كان الحزب منخرطاً في صراعٍ ضارٍ مع الاحتلال الاسرائيلي. وكان لبنان ما يزال تحت حكم الوصاية السورية، وهي التي كانت تملي على اللبنانيين ما يصلح لهم وما يليق بهم من قتال وأحلاف وأحوال ومشاعر وعداوات.وكان قد نأى بنفسه فعلا عن الانخراط في المحاصصات التي سادت عهد الرئيس الهراوي.وقد جاهر الحزب مرارا وافتخر بابتعاده عن الحكم وموبقاته، وكان مكتفيا برضا الولي الفقيه ورعايته، ورضا الوصي السوري على لبنان بتسهيل إمداداته وترسيخ وجوده التنظيمي والعسكري.
أمّا اليوم فإنّ مقولة شرارة هذه تتحقّق فعليا وعمليا منذ الانسحاب السوري عام ٢٠٠٥ وتصدي الحزب وحده لإدارة شؤون "الممانعة" وقواها على الساحة اللبنانية، ولعل من مظاهرها حرب تموز عام ٢٠٠٦، وقمع القوى المعترضة على سياسته وهيمنته على مفاصل الدولة عام ٢٠٠٨ ،وصولا للانخراط الكامل في الحرب الأهلية السورية منذ ما يزيد على ثلاث سنوات. يبقى أنّ استباحة الحزب لكل ما تبقّى من سيادة لبنانية ،وعلاقات خارجية مع محيطه العربي، بعد انخراطه المتمادي في الصراع الواسع (وإن كلاميا ودعائياً) في اليمن والعراق والبحرين وحتى المملكة العربية السعودية، ممّا أدى إلى عزلته العربية ووصمه بالإرهاب، بعد أن كان مفخرة العرب في التصدي للعدوان الصهيوني.
هذه الإستباحة هي النتيجة الطبيعية لفرض الوصاية التامة على الدولة اللبنانية وسيادتها، وأجهزتها العسكرية والأمنية، وقنواتها الدبلماسية، والتلطي وراء شعارات المقاومة والكرامة والانتصار حسب تعبير شرارة، ونضيف عليها نصرة المستضعفين والفقراء، والذين ليس لهم حول ولا طول، خاصة في اليمن السعيد والبحرين الهانئة. لطالما زيّن الحزب للبنانيين عامةً والشيعة خاصة، انّه يحمل لهم مع الطهارة الشيعية التاريخية الجهادية، حداثة جديدة في السلوك والمُعتقد، ستعود عليهم بالمجد والتقدّم والرخاء، والهدف المنشود ،بعد رضوان الله تعالى إقامة دولة العدل والاحسان،ومحق دولة الظلم والعدوان، ودحر العدو المغتصب لأرض فلسطين المقدسة، وخدمة الناس بأشفار العيون، لتتمخض التجربة اليوم عن مشهد مريع.حاجز منعزل عن العالم العربي، تورط عسكري في أكثر من موقع، تسلُط متزايد على مُقدّرات الدولة اللبنانية وإعاقة استكمال مؤسّساتها الدستورية ما يجعلها دولة منهكة ومضطربة الاوضاع، وليس هذا وذاك إلاّ الوجه الاستبدادي(كما يقول ت.آدورنو) من الحداثة.والذي يطيح بوعود العدل والانصاف والايمان ودولة الكرامة والإنتصار.