دوائر القرار في محور المقاومة لم تُفاجأ بما أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الاثنين الماضي، عن بدء سحب الجزء الرئيسي من القوات الروسية المشاركة في الحرب السورية. هذه الخلاصة تؤكدها مصادر في هذا المحور. هي لا تتحدّث عن توقعات صحّت. بل تجزم بأن من بأيديهم الأمر، في دمشق وطهران وحزب الله، كانوا يعلمون مسبقاً بما أعلنه الرئيس الروسي.

يهزأون بالقائلين إن قرار بوتين صدر نتيجة امتعاضه من المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الخارجية السوري وليد المعلم، رافضاً فيه الفيدرالية، ومعلناً أن الرئيس بشار الأسد خط أحمر. وبحسب المصادر نفسها، فإن الاتصال بين بوتين والأسد، الذي تقرر فيه بدء سحب القوات الروسية، جرى قبل مؤتمر المعلم لا بعده. وفور التوصل إلى اتفاق بين بوتين والأسد، بادر الرئيس السوري إلى إبلاغ حلفائه في طهران ولبنان فحوى الاتفاق وموجباته. وهذا القرار هو نتيجة لقراءة مشتركة بين سوريا وكل حلفائها. لا ينكر من بأيديهم الأمر في دمشق وطهران وحزب الله الدور المحوري الذي لعبه الوجود الروسي في الميدان السوري. يُنقل عن مسؤول أمني سوري رفيع المستوى قوله إن ما حصل عليه الجيش السوري من أسلحة ومعدات وتجهيزات ومنظومات روسية في الأشهر الستة الأخيرة يفوق كل ما تلقّاه من موسكو في سنوات الحرب الخمسة كلها. كذلك فإن فعالية سلاح الجو الروسي «الفائقة» ظهرت في معارك الشمال السوري بصورة لم يعهدها هذا الميدان من قبل، سواء ضد «تنظيم القاعدة في بلاد الشام ــ جبهة النصرة» وحلفائه، أو في مواجهة تنظيم «داعش» سعياً إلى تخفيف قدرته على نقل إمداداته من منطقة إلى أخرى، ومحاولة تجفيف مصادر تمويله النفطية.


بوتين: الطائرات الروسية يمكنها العودة في
غضون ساعات

 


الوجود الروسي لا يُقاس بمساهمته الميدانية حصراً. فهو مظلة استراتيجية للدولة السورية، ودفع معنوي كبير للجيش السوري وحلفائه، وسدّ منيع أمام التدخّل الأطلسي. يُدرك محور المقاومة ذلك جيداً. مسؤولوه متيقنون من أن هذه المظلة لن تغادر سوريا. أكّد «يقينهم» هذا بوتين نفسه أمس، حين قال إن الطائرات الروسية التي غادرت وستغادر سوريا يمكنها العودة في غضون ساعات إذا تطلّب الوضع ذلك. كذلك تحدّث عن أن القوة التي سُحِبَت هي تلك التي تمثّل فائضاً بعدما توقّفت ثلاثة أرباع المعارك بفضل الهدنة. ويقول مسؤولون في محور المقاومة إن القوة الروسية التي ستعود إلى بلادها هي، بصورة أساسية، تلك التي أتت على خلفية التوتر الروسي ــ التركي، بعدما أسقطت المقاتلات التركية طائرة روسية في سماء ريف اللاذقية الشمالي. وتضيف القراءة نفسها أن هذا التوتر انخفض بفعل الضغط الأميركي على أنقرة، ونأي «حلف شمال الأطلسي» بنفسه عن مواكبة رجب طيب إردوغان في تصعيده ضد موسكو. وبناءً على ذلك، يؤكد المعنيون في محور المقاومة أن القوة الروسية التي يحتاج إليها الميدان السوري ستبقى في اللاذقية وطرطوس، مدعّمة بأحدث أنظمة الرادار والدفاع الجوي. وفي هذا الإطار، كانت لافتة أمس إشارة بوتين مجدداً إلى أنه لا يحق لأحد اختراق المجال الجوي السوري، وأن منظومات الدفاع الجوي الروسية ستستهدف أي تهديد لقواته في سوريا.
المتحدثون من محور المقاومة لا يكررون كلاماً إنشائياً عن وحدة الأهداف والمسار والمصير بين محورهم وموسكو. «هو تحالف. ثمة أهداف استراتيجية تجمعنا، على رأسها وحدة الأراضي السورية، والحفاظ على الدولة، وشخص الرئيس الأسد». لكن هذا لا يعني وجود تباينات. في الآونة الأخيرة، ظهرت نقطتان خلافيتان رئيسيتان: الأولى، قرار دمشق إجراء الانتخابات التشريعية. اعتبر الروس هذه الخطوة «دعسة ناقصة» على طريق المفاوضات السياسية. وعندما زارت مستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان موسكو قبل أسابيع، شرحت لمن التقتهم أهمية الانتخابات، للبعث برسالة تشير إلى استمرارية عمل الدولة السورية. وبعد مشاورات بين دمشق وموسكو، اقتنع الروس بخطوة حليفهم، لأن التوصل إلى أي اتفاق سياسي مع المعارضة ورعاتها سيُحتّم إجراء انتخابات جديدة. وهذه الخطوة ممكنة في ولاية مجلس الشعب الحالي، أو المقبل. أما النقطة الخلافية الثانية، فظهرت بشأن موعد بدء سريان الهدنة. كانت دمشق، ومعها طهران وحزب الله، تفضّل تأجيل موعد الهدنة إلى ما بعد استكمال الطوق حول الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة في مدينة حلب. لكن الروس أصرّوا، فوافق الحلفاء. شرحت موسكو أهمية التوصل إلى تفاهمات مع واشنطن قبل انتهاء ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما. وتبنّوا رؤية الأسد للمصالحات مع القوى المسلحة المعارضة التي تمثّل شرائح من الشعب السوري، وتقبل بالتنصل من الجماعات الإرهابية ومقاتلتها. التدخل الروسي الجوي، وتنسيقه مع القوات الميدانية السورية والحليفة، أحدثا قفزة سياسية، يمكن التعبير عنها بما واجهه المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. فالأخير حاول إرساء الهدنة قبل عام كامل في حي صلاح الدين في مدينة حلب. وافقت دمشق، لكن المعارضين رفضوا، ففشل المسعى الدولي. نقل اقتراحه إلى حي الوعر في حمص، ففشل مجدداً، وكذلك في درعا. لم تكن المعارضة في وارد التنازل. قتال الحلفاء معاً سمح بجر رعاة المعارضة إلى التنازل، وإجبارها على إرساء الهدنة في عموم الأراضي السورية. يرى بوتين أن الميدان يسمح له بتقديم حركته المفاجئة على صورة تنازل، ما يمنح الأميركيين سلماً يقدّمونه إلى المعارضين ورعاتهم الإقليميين. وهذه الخطوة حظيت برضى حلفاء موسكو مسبقاً، على حدّ تأكيد مسؤولين في محور المقاومة. يتحدّث هؤلاء بثقة، قائلين: «من يراهن على تخلّي بوتين عن الأسد، يمكنه أن يراجع باراك أوباما. إدارة الأخير سبق أن أبلغت الإيرانيين والروس، على هامش المفاوضات النووية، أنها لا تمانع بقاء الأسد في السلطة، كما حقه في الترشح إلى الانتخابات المقبلة. وفي هذا السياق، صدر قرار سحب القوات الروسية».