إعجاب فلاديمير بوتين بالعروض المسرحية وحرصه على إذهال «المشاهدين» لا يحولان دون واقعيته عندما يتعلق الأمر بمصالح «الروسيا» العليا. فالدخول الاستعراضي الى الحرب السورية والخروج المماثل منها، وإحاطة القرارين بالكثير من التشويق والغموض، لم تخف جميعها أن الغرض منهما كان روسياً، وروسياً فقط، وأن بشار الأسد كان مضطراً، لضعفه، ان ينصاع مرتين: عندما جاء الجيش الروسي ليوقفه على رجليه، ثم عندما تركه لا يستطيع السير من دون عكازين صنعهما له.
جاء قرار موسكو بالتدخل ليحقق مجموعة أهداف بينها استعادة دور ما على الساحة الدولية بعد عزلة تسبب بها التدخل في أوكرانيا وجورجيا واقتطاع جزء من دولتين أوروبيتين، ولو من «الدرجة الثانية». وجاء ايضاً بعدما تأكدت موسكو من أن الجيش النظامي السوري الذي دربته وسلحته ويواليها كبار ضباطه بات على وشك الانهيار او تغيير الخيارات، ما يهدد نفوذها في سورية. وكذلك لأنها اعتبرت أن الفرصة سانحة لإجراء مقايضة في الملفات مع الأوروبيين المرتبكين والأميركيين المنسحبين من المنطقة.
وكان الإخراج في المرتين مسيئاً جداً الى هيبة الأسد، إذ استدعي وحده الى موسكو ليلاً وأبلغ بقرار التدخل الذي اتخذ ولم يعد أمامه سوى الانصياع. وبدا من نشر الكرملين نص الاتفاق من جانب واحد، أن موسكو تتقصد إظهار تحكمها بالتفاصيل كأنها تقول إن من يريد التفاوض حول سورية فليأتِ إليّ. ولم يستطع ادعاء الأسد انه هو من طلب التدخل الروسي تغيير هذا الانطباع.
ثم جاء إعلان بوتين قراره سحب الجزء الأكبر من قواته الجوية بعدما استنتج أن العملية في سورية «حققت أهدافها»، وقول الكرملين إن الأسد أُبلغ بالقرار ليوضح أن موسكو اتخذته وحدها. ومرة ثانية لم ينجح ادعاء دمشق أنها طلبت من الروس «تقليل نشاطهم الجوي» في تأكيد أي مشاركة لها في صنعه. فالروس يحاورون الأميركيين والأوروبيين، ويحمون مصالحهم معهم، وليس على الأسد سوى تقبل النتائج طالما أن وضعه على الأرض لا يسمح له بأكثر من ذلك.
لكن لماذا الانسحاب وما المصلحة الروسية التي أملته؟ من الواضح أن بوتين رأى أن من الأفضل سحب قواته وهو في قمة الاستفادة من تدخلها قبل أن يبدأ الثمن الذي يدفعه في الارتفاع، بعدما تبين أن ورقتي الضغط اللتين أتاحهما وجوده المباشر في سورية استنفدتا غرضيهما: الأولى كانت ورقة المهاجرين ضد اوروبا والثانية ورقة الأكراد ضد تركيا.
فبعد الاتفاق بين أوروبا وتركيا على تولي أنقرة «حراسة» حدود الاتحاد في مقابل بدل مالي، لم تعد بروكسيل في حاجة الى تخفيف عقوبات فرضتها على موسكو بعد أزمة أوكرانيا كي توقف ضرباتها الجوية في سورية، والتي تسببت في دفق جديد للاجئين هدد الوحدة الأوروبية. ولم تلمس موسكو أي مؤشرات الى إمكان تغيّر وشيك في الموقف الأوروبي.
أما الضغط على تركيا والمعارضة السورية عبر محاولة وصل الجيبين الكرديين في شمال سورية لإقامة «منطقة عازلة» بين حدود الدولتين تضعف المعارضة وتقطع طرق إمدادها، فلم تفلح بسبب التهديد السعودي والتركي، ولتفضيل الأكراد العلاقة المستجدة مع الأميركيين الذين نصحوهم بانتظار انتهاء الحرب على «داعش» قبل نيل أي «مكافأة» فعلية. ويعرف أكراد سورية أن الأميركيين وحدهم يستطيعون مساعدتهم في تثبيت وتوسيع الحكم الذاتي الذي اقاموه بعدما دعموا بنجاح قبلهم أكراد العراق.
حاول نظام الأسد خلال الفترة الفاصلة بين التدخل والانسحاب الروسيين أن يدعي لنفسه القدرة على فرض شروطه، فتحدث عن «تحرير» كل سورية وعن رفض أي تفاوض حول انتخابات رئاسية او حكومة انتقالية بصلاحيات واسعة، لكن قرار بوتين جاء ليؤكد أنه ليس على استعداد لمواصلة دفع كلفة حرب غير مضمونة النتائج، وأن اتفاقه مع واشنطن على إيجاد تسوية قد تقود الى الفيديرالية أهم بالنسبة اليه من رغبات الأسد الذي عليه الامتثال. أما مصلحة سورية فليست عند أي منهما.