بعد مرور أيام قليلة على انكشاف خيوط عنكبوت الانترنت غير الشرعي، تبين بالدليل واليقين العلمي أن هناك بصمات إسرائيلية على جسم هذه الفضيحة التي استباحت الأمن القومي للدولة اللبنانية وخزينتها على مدى سنوات من التسيب والفوضى.. على عينك يا تاجر.
البعض ربما يكون قد ملّ من اتهام إسرائيل بكل صغيرة وكبيرة، مفترضاً عن حسن أو سوء نية أن هذا النوع من الاتهامات ينتسب الى مدرسة «نظرية المؤامرة» التي تهدف الى التهرب من المسؤوليات والتبعات، وإلقائها على العدو.
لكن، ها هو وزير الاتصالات بطرس حرب الذي لا ينتمي سياسياً الى ما يُعرف بمحور المقاومة والممانعة، يخرج ليعلن بصوت مرتفع «عن أننا أمام حادث خطير جدا، يمثل تهديدا للأمن الوطني»، كاشفاً عن ضلوع شركات إسرائيلية في تزويد محطات تهريب الانترنت باحتياجاتها. بل ان حرب ذهب الى أبعد من ذلك، مؤكدا أن هناك مجرمين قرروا أن يبنوا وزارة اتصالات موازية، مستعينين بمعدات إسرائيلية.
وإذا كانت قطاعات كثيرة وشرائح شعبية واسعة في لبنان قد باتت مكشوفة على مستوى الأمن المعلوماتي والخصوصيات الفردية، بفعل تمدد شركات الانترنت غير المرخصة في السوق اللبنانية، من دون خضوعها الى أي رقابة أو ضوابط، فإن الأخطر هو أن محطات التوزيع المشبوهة تتولى ايضا، كما أصبح معروفا، توزيع خدمات الانترنت على مقارّ رسمية حساسة، ومجاناً في معظم الأحيان، ما يزيد القضية خطورة، ويدفع الى التساؤل عن حجم الأضرار المترتبة على الاختراق الذي تعرضت له خطوط الانترنت العائدة الى تلك المقارّ.
وفيما يُستغرب أن تقع مراكز رسمية في فخ شركات مريبة، فقط من أجل الحصول على خدمات مجانية أو بأسعار زهيدة، نُقل عن مرجع كبير قوله إن أفضل تعليق على هذه المفارقة يكمن في الاستشهاد بالمثل الشعبي القائل: «شو أحلى من العسل.. الخل ببلاش!».
وبالنظر الى أهمية هذا الملف الحساس، عُلم أن جلسة الحوار التي انعقدت مساء أمس بين وفدي «حزب الله» و «تيار المستقبل» بحضور الوزير علي حسن خليل تطرقت اليه، وكان توافق على ضرورة التصدي له بحزم وسرعة. وجرى نقاش مع وزير الداخلية نهاد المشنوق حول المعطيات التي تملكها قوى الأمن الداخلي في هذا الصدد.
ومع ثبوت الشراكة الإسرائيلية في الانترنت غير الشرعي، تكون المعركة ضد الشركات اللبنانية المخالفة قد اتخذت منحى آخر، أبعد وأخطر بكثير من الجانب التقني والإجرائي.
بهذا المعنى، لم تعد المسألة مسألة جنحة أو جنوح، بل أصبحنا أمام ارتكاب جرم من الدرجة الأولى يصل الى حد العبث بالأمن الوطني، على أن يُترك للتحقيقات أمر التدقيق في ما إذا كانت «الفروع المحلية» للفضيحة تعلم أصلا أن هناك تقاطعا أو تعاونا تقنيا مع شركات إسرائيلية، أم أن المشغلين في الدول الأجنبية المجاورة (تركيا وقبرص..) والشركاء في التحايل على الدولة اللبنانية هم الذين كانوا يتولون حصراً أعمال التنسيق مع الجهات المعنية في اسرائيل.
ولأن الأمر بات على هذا النحو الدقيق، فإن المعالجة الرسمية يجب أن تكون على المستوى ذاته، سواء من حيث جدية التحقيقات وسرعتها، أو من حيث ملاحقة كل المتورطين في هذا الملف من صغيرهم الى كبيرهم، وعدم مراعاة أي حصانة قد يتلطى خلفها البعض للإفلات من العقاب أو لتخفيفه، كما حصل في مرات سابقة، خصوصا أن مخالفة القانون، بالحد الأدنى، مثبتة.
إن الدولة معنية، ولو بمن حضر في ظل الشغور الرئاسي، باستعادة هيبتها وحقوقها، وتحرير فضائها من الاحتلال الاسرائيلي المتسرب خلسة الى الداخل اللبناني عبر أطباق شركات الانترنت المخالفة للقانون.
والأكيد في هذا السياق أن اللائحة الاتهامية تطول وتتسع لكل من تغاضى عن إدخال المعدات التقنية لشبكة التهريب، وتولى نقلها، وسمح بتركيبها، وغض الطرف عن إنشائها، وأمّن الحماية لأصحابها، وأهمل واجباته في الكشف عنها.
وعلى هذه القاعدة، فإن تساؤلات كثيرة توجه الى الإدارة السياسية والأجهزة الأمنية حول أسباب تجاهل وجود شركات الانترنت أو الجهل به، برغم أنه مضى على ولادة بعضها قرابة سبع سنوات، علما أن بعض تلك الأجهزة أصبح يملك من الكفاءات والتقنيات ما سمح له بتفكيك شبكات تعامل مع إسرائيل وضبط خلايا للإرهاب التكفيري، فكيف يمكن أن يُفسر العجز لفترة طويلة عن ضبط شبكة الانترنت الناشطة عبر «الخط العسكري» حيث لا حسيب ولا رقيب.
وما يزيد الريبة، هو أن لدى جهات في الدولة تجهيزات لرصد ذبذبات أي معدات لا تسلك الطرق الشرعية، تماما كما هي وظيفة الـ «سكانر» عند المعابر الحدودية، فهل شبكة الانترنت «الملتوية» كانت تعمل من دون أن يلتقطها رادار المراقبة أم ان هناك من كان يتعمّد عدم التعرض لها؟
وتجدر الإشارة الى أن المنشآت التي اكتشفت حتى الآن تتوزع على جرود الضنية، النجاص، فقرا، عيون السيمان والزعرور، وهي ضخمة جداً وتتضمن صحونا لاقطة ومحطات أرضية وأنظمة اتصالات لاسلكية، والعديد من أنظمة المسارات الدولية، ومحطات للطاقة، وتحويل الطاقة البديلة وبطاريات، ومولدات كهربائية، ومنشآت مدنية، وأبراجاً معدنية شاهقة.
إنها باختصار «دويلة انترنت» داخل الدولة..
وتدحرجت أمس فضيحة الانترنت، متنقلة بين المؤتمر الصحافي لحرب في وزارة الاتصالات ومقر الرئاسة الثانية في عين التينة حيث وضع الرئيس نبيه بري يده على هذا الملف محذرا من تداعياته «التي لا تقف عند حدود الخسائر المادية للدولة التي تتجاوز النصف مليار دولار، بل تمس سيادة لبنان وأمنه، خصوصا لجهة دخول شركات إسرائيلية على خط هذا الاعتداء الخطير على لبنان واللبنانيين».
وأكد رئيس لجنة الاتصالات والإعلام النيابية حسن فضل الله لـ «السفير» أنه «ليس مسموحاً لأحد استغلال الشلل الذي أصاب العديد من مفاصل المؤسسات الدستورية ليستبيح المحرمات ويحقق مكاسب على حساب الدولة والمواطن، مشددا على أن الرقابة والمساءلة ستُطبقان بما توافر من أدوات، ونحن في لجنة الاتصالات والإعلام لدينا كل التصميم على متابعة هذه القضية حتى النهاية».
وأوضح أنه تمت دعوة وزارات الاتصالات والمال والداخلية والدفاع الى الاجتماع الذي دعت اليه لجنة الاتصالات النيابية الاثنين المقبل، إضافة الى الأجهزة الأمنية والقضائية المعنية، لاستفسارها عن كل الملابسات المحيطة بهذا الملف.
ووصف حرب في مؤتمره الصحافي الشبكة بأنها «واحدة من أخطر الاعتداءات على السيادة الوطنية وحقوق المواطنين وحق الدولة اللبنانية في ضبط حصرية مرافقها العامة، لأنها تمس الأمن الاقتصادي للدولة، والأمن القومي للبنان، وتمس أمن المعلومات الخاصة والشخصية للمواطنين».
وأكد أن المنشآت التي اكتشفت تشكل معابر وبوابات دولية للاتصالات وللانترنت، متصلة بعضها ببعض، ومتصلة أيضا بمشغلين في دول أجنبية مجاورة، تقوم بدور الوسيط مع دول أخرى.
وأشار الى أن هذه البوابات تقوم بتمرير الاتصالات الدولية، وحركة معلومات الانترنت ونقل المعلومات، من لبنان وإليه، عبر مسارات وأنظمة خارجة عن معرفة ومراقبة السلطات اللبنانية المعنية، معرّضة مضمون هذه الاتصالات والمعلومات المنقولة لمخاطر وقوعها في أياد عدوة للبنان أو لدى جهات راغبة في إلحاق الضرر بلبنان.
وأوضح أن الناظر إلى ضخامة المعدات المضبوطة، وحداثة تصنيعها، يدرك أننا أمام مجموعات مقتدرة وعالية الإمكانيات، وأمام شبكة من المجرمين تهدف إلى إنشاء شبكات رديفة لشبكة الدولة.
أما المدير العام لـ «أوجيرو» عبد المنعم يوسف فتوقع من ناحيته كشف المزيد من معابر الانترنت غير الشرعية مع تقدم التحقيقات