إذا أردتَ الوُلُوجَ إلى عالمِ الفكرِ الروحي والتنويري فكمالُ جنبلاط يعرُجُ بكَ عبرَ كتبِه ومروياتِه وطروحاتِه ومنشوراتِه ورسائلهِ نَحْوَ السياحةِ الفكريةِ في رحاب المعرفة التي أثمَرَتْ قِيَماً وتعاليمَ تُصلُحُ مواداً للتدريس الأكاديمي في المدارس والجامعات والمعاهد وحلقات للحوار والبحث الثقافي والتربوي.
ولو كنتُ وزيراً للتربية لصِغتُ أبرزَ أفكارِهِ كتاباَ ضمنِ مكوِّناتِ المواد التدريسية. والقارئُ لمؤلفاتِهِ يجد نفسَه أمامَ حكومةٍ ثقافيةٍ ودولةٍ فكريَّةٍ يتوافر فيها للقارئ ما يحتاجُه ويَصْبُو إليه.
وكأنَّكَ في رحاب بستانٍ من الخيرات تقطف منه ثمارَ العلمِ وعنقودَ المعرفةِ وما تشتهي لوحاتُ الكلماتِ من المعاني والمباني،،فرحمه الله نطَقَ بكلَّ شيءٍ حسبَ نظرتِه للدين والدنيا من خلفية فلسفية بحتة،وهو المُنْعَتِق من القيود الشوفينية والعُقَدِ الطائفية والمناطقية.حتى غدا نهجُهُ منارةَ كلِّ مناضلٍ ومكافحِ وباحثٍ عن الحرية النبيلة،ليكونَ الإنسانُ كونيّاً بتطلعاتِه وممارساتِه.
وبدأ نضالاتِهِ الأولى في سبيل إصلاح النظام السياسي نحو العدالةِ والديموقراطي.
الكمالُ ملأَ الدنيا وشغَلَ الناسَ بحضوره وبعدَ الممات،فجَمَعَ بين المثاليةِ الفكرية والوقعيةِ السياسة حيث قال:الثوريُّ الحقيقيُّ يزيد الفرحَ في هذا العالم، فالأخلاق والثورة تسيران جنباً إلى جنب".
فمسيرتُه النضاليةُ تجربةٌ رائدةٌ يُبنى عليها ومنها دولاً بنكهة ولمسةٍ إنسانية،تَمَاهَى معها الفكرُ والمنطقُ بالحوار والرأي الحرِّ الذي هو حجــرُ الأساسِ لكلِّ تطــوُّرٍ اجتمــاعي واعٍ ومسؤول،حيث خاَض أرقى معاركِ الرأي والفكر بهدف الإرتقاء بالعمل السياسي بلسان العقل حتى وُصِفَ بأنّه "آخر رجل دولة عربي".
وكأني بالمشاكل اللبنانية والعربية المستعصية تَفتقد كمال جنبلاط لحلِّ عُقَدِها. الكمالُ استحقَّ لَقَبَ ( المُعَلِّم) فذاعَ صيتُه في القارات السبع،وأنشأ مملكةً فكرية وفلسفية بأسلوب سقراطي يهدف لعقلنة الإنسان وتحريرِهِ من العصبيات التي تحدُّ من الحداثة والرؤية المستقبلية.
وحين أحسَّ المستبِدُّ منه ضرراً وتململاً ولم يكن بمقدوره تحمّل وجودِه فأردَاهُ جسَدَهُ شهيداً ليُصبِحَ لعنةً على قاتليه،ففي ليلة ممطرة كادَ له الماكرون جريمةً اختلطَ فيها دمُهُ بماء السماء فارتَوَتِ الأرضُ ثورةً لم ولن تخمُدُ نارُ بُركانها.وقبلَها نصحَه المقربون قبل اغتياله بالسفر لفرنسا درءاً للخطر على سلامته فقاله قولاً ذهبيّاً "إن الرجال من آل جنبلاط نادراً ما يموتون على الفراش".
رحمَ الله الكمالَ وحمى الوليدَ والوريثَ.فما أحوجنا اليوم لرجالاتٍ كمالية تكون للأوطان سلاماً.وسيبقى تُراثُه كنزاً ومَعْلَمَاً وصرحاً من هامات المعرفة التي لا تزول ولا تغرب شمسُها.
صالح حامد