من المبكر الافتراض ان الرئيس بشار الاسد شرع في توضيب حقائب السفر إستعداداً لمغادرة الرئاسة والعاصمة، لكن الارجح ان الفكرة راودته للمرة الاولى عندما تلقى مساء الاثنين ذلك الاتصال الهاتفي المفاجىء من نظيره الروسي فلاديمير بوتين يبلغه فيه من دون سابق إنذار أنه قرر سحب قواته من سوريا.
ثمة تقارير دبلوماسية سابقة تفيد بان تلك الحقائب جهزت مرة واحدة في إعقاب مجزرة الكيماوي في صيف العام 2013، عندما قرر الرئيس الاميركي باراك اوباما معاقبة الاسد، فظنّ النظام يومها انه مهددٌ بحرب أميركية شبيهة بغزو العراق، قبل ان يتبين أن العقاب لن يتعدى قصفاً اميركياً بالصواريخ البعيدة المدى لبعض المواقع الصاروخية السورية في محيط دمشق. وهو ما تراجع عنه أوباما بعد أيام..
هذه المرة، يبدو ان توضيب الحقائب لن يكون داهماً، ولن يقتصر على رأس النظام وأسرته ومحيطه المباشر. القرار الروسي المدوي يهز بكل تأكيد قيادة الجيش السوري برمتها، ويضعها أمام حقيقة نهائية هي ان دوره العسكري الحالي قد بلغ ذروته لأن الحرب بشكلها الحالي قد إختتمت.. وما لم يكن بالامكان إسترداده في الاشهر الخمسة الماضية بغطاء روسي تام، لن يكون بالامكان إستعادته بعد اليوم.
وبهذا المعنى، فان روسيا اعلنت بالامس أنها قامت بالحد الاقصى من الغارات الجوية والصاروخية وأرتكبت من المجازر وعمليات التطهير ما لم يوفر للجيش السوري سوى فرصة إسترداد بعض البلدات والقرى في ريف حلب وقرب الحدود مع تركيا، وفي توسيع نطاق الحماية الامنية لمنطقة الساحل السوري.. على الرغم مما يقال اليوم عن تحضير وحدات من ذلك الجيش للعمل تحت الامرة والتغطية الروسية من اجل شن هجوم وشيك على تدمر وطرد تنظيم داعش منها.
البيان الروسي الذي يعلن الانسحاب لا يسقط مثل هذا الاحتمال، ولا يستبعد ايضا هجوماً مشابهاً على الرقة، يحظى بتغطية جوية اميركية. فالحرب على داعش ستظل مستمرة لسنوات طويلة مقبلة. وثمة ما يوحي بانها بدأت للتو. لكن الجبهات الاخرى من الحرب السورية دخلت في مسار جديد: هدنة دائمة تخرق يوما وتترسخ أياماً، بالتوازي مع دفع استثنائي -روسي - للحل السياسي الذي يؤدي الى تغيير جذري في بنية النظام ورموزه.
يمكن للقرار الروسي ان يختزل باعتباره صفعة قوية لبشار الذي تصرف بصلافة منذ إعلان موسكو وواشنطن عن الهدنة في نهاية الشهر الماضي، وحاول التمرد على وقف النار ولا يزال، ثم تحدى قرارات مجلس الامن الدولي عندما حدد موعداً للانتخابات النيابية الشهر المقبل، ثم إستبق إرسال وفده الى جنيف بالتحذير من تجاوز الخط الاحمر الذي يمثله مصير الاسد، والتلويح بالانسحاب من المفاوضات بعد أربع وعشرين ساعة فقط.
لكن تأديب الاسد لا يحتاج الى اكثر من إستدعاء عاجل الى الكرملين، كما جرى في مستهل الحملة العسكرية الروسية في نهاية ايلول سبتمبر الماضي، وتوجيه تنبيه شخصي مباشر له بضرورة الالتزام بالتوجيهات السياسية الروسية، التي تترجم المعاهدة العسكرية الموقعة في حينه بين البلدين، والتي وصفت بأنها أشبه بمعاهدة انتداب رسمي روسي على سوريا، لم تسجل في الامم المتحدة، لكنها لم تواجه إعتراضاً جدياً من أي دولة في العالم.
لعل سلوك الرئيس الروسي الفظ ساهم في التوصل الى هذا الاستنتاج المتسرع، الذي يعني ان بوتين غضب من الاسد فإتصل به وأبلغه انه سيخرج من سوريا فوراً! الثابت ان بوتين لا يكن أي ودٍ او إحترامٍ للاسد، وهو لم يرسل قواته الى سوريا لابقائه رئيساً الى الابد، بل لمحاولة تفادي إنهيار الجيش والدولة والمؤسسات السورية، وتجنب الفوضى العراقية او الليبية او اليمنية.
ربما كان هذا هو بعض ما جرى بالامس بين موسكو ودمشق.. مع ان قرار الخروج من الحرب السورية، لا يمكن ان يصدر الا عن رئيس عاقل، ولا يمكن ان يبلغ إلا بهذا الشكل لرئيس مجنون، يرفض الاعتراف بان موعد السفر قد حان