تصريح واحد من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وضع الحرب السورية بـ«جنيفها» وأطرافها ورعاتها في مكان جديد. عبارة «سحب الجزء الرئيسي من القوات الروسية» من سوريا حملت تفسيرات واحتمالات متعددة. ولعلّ تفسير «انسحاب روسيا» إلى ما قبل 30 أيلول 2015 يشي بتمنيّات قوى المعارضة أكثر ممّا يعبّر عن الحقيقة.
لكن عملياً، خطت روسيا نحو الدفع باتجاه «تقدّم العملية السياسية». أزالت «فائض القوة» الذي قلب ميزان الميدان لمصلحة الجيش السوري وحلفائه، وهي تنتظر المقابل من الولايات المتحدة لتؤطّر «انكفاءها» بدفع لعملية السلام.
باختصار، قال بوتين للجميع أمس، إن أوان التسوية قد حان.
وفي ظل شحّ المعلومات بشأن أبعاد الخطوة الروسية ونتائجها، اختلفت القراءات حولها. مصدر داعم للمعارضة مقيم في موسكو، رأى أنّ تصريحات وزير الخارجية السوري وليد المعلم الأسبوع الماضي، نزلت كالصاعقة في العاصمة الروسية، وأحدثت امتعاضاً في دوائر القرار المعوّلة على مسار جنيف. المصدر، الذي له صلات دبلوماسية في مكان إقامته الدائم، قال أمس إنّ مؤتمر المعلم الصحافي أقفل الأبواب أمام الحوار. ثم أتى «اتصال هاتفي بين بوتين والرئيس السوري بشار الأسد، ليزيد من التباعد بين الطرفين، وينتهي إلى خلاف بينهما، وقرار روسي بالانسحاب من سوريا».
في المقابل، تقدّم مصادر المحور الداعم للدولة السورية رواية مختلفة. تقول إن «الروس أبلغوا الرئيس السوري سابقاً بالانسحاب في منتصف الشهر الجاري».
وبحسب هذه المصادر، إن قرار سحب «القوات الرئيسية» صدر في سياق اتفاق بين موسكو وواشنطن. قدّم الأميركيون للروس تعهداً بمنع تركيا والسعودية من أي تدخّل يغيّر الموازين في سوريا، وهذا ما تُرجم ببدء أنقرة إقفال حدودها على نحو جدّي في بعض المناطق. ويفيد التوجّه الأميركي ــ الروسي بتعزيز المصالحات، والاتفاق مع الفصائل على قتال «داعش». ويبقى الاتفاق سارياً، في ما يخصّ معركة يقودها الجيش السوري وحلفاؤه، بدعم روسي، في ريف حمص الشرقي مروراً بتدمر وصولاً إلى الحدود العراقية، وذلك بموازاة الاتفاق على خوض «قوات سوريا الديموقراطية» معركة الرقة بدعم أميركي. وبالنسبة إلى إدلب، يشير الاتفاق إلى أنّ الحلّ يبدأ بمعارك داخلية مع «جبهة النصرة»، يتلوها العمل على مصالحات مع القوى التي تطيح التنظيم «القاعدي» وحلفاءه.
ولعلّ اتفاق الهدنة المفروض روسياً وأميركياً (أولاً وأخيراً)، يُظهر الرقصة الثنائية التي يمارسها الطرفان على الملعب السوري، والتي ظهرت بأوضح صورها في الاتفاق على نزع ترسانة السلاح الكيميائي السوري صيف 2013.
موسكو بدأت
بسحب عدد من طائراتها منذ أسبوع
هذه الثنائية كانت بالغة الدلالة بكلام وزير الخارجية سيرغي لافروف أول من أمس، عندما عبّر عن استعداد بلاده للتنسيق مع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لطرد تنظيم «داعش» من الرقة. لافروف أكّد أيضاًَ أنّه «ليس سراً إذا قلت إنه في مرحلة ما اقترح الأميركيون تقسيم العمل: أن يركز سلاح الجو الروسي على تحرير تدمر، بينما يركز التحالف الأميركي بدعم روسي على تحرير الرقة».
أما سياسياً، فينص الاتفاق الذي تتحدّث عنه المصادر نفسها على أن تشهد الجولة المقبلة من مفاوضات جنيف، بعد الرابع والعشرين من الشهر الجري، تطوّراً جديداً عبر مشاركة أطراف جديدة فيها، كالأكراد. وستحاول موسكو مع واشنطن انتزاع موافقة كلّ من الطرفين (موسكو للوفد الحكومي وواشنطن بالضغط على تركيا والسعودية وخلفها الوفد المعارض) للبدء بمفاوضات مباشرة بين الوفدين، تحت عنوان «قتال الإرهابيين».
الانسحاب الجزئي الروسي يتّصف بالمفاجئ بتوقيته المتزامن مع انطلاق محادثات جنيف، وبتأكيد وقف العمليات في الأراضي السورية بعيداً عن مناطق نفوذ «داعش»، وبعض مناطق «النصرة».
ببساطة، يقول الروس إنّ معركة حلب، مثلاً، لن تتواصل، ولا معركة في إدلب قريباً. الهدف هو دفع الجميع إلى التمسك بالهدنة و«تكثيف الجهود الدبلوماسية» بغية التوصل إلى تسوية. بوتين رأى أن القوات العسكرية الروسية حققت أهدافها إلى حد بعيد، و«كفاءة جيشنا خلقت الظروف لبدء عملية السلام». هي «إشارة جيدة لجميع الأطراف المتنازعة لزيادة ثقة جميع المشاركين في عملية السلام»، أضاف.
مصدر معارض مقرّب من موسكو رأى في الإعلان الروسي «بداية للحل السياسي الحقيقي». وأشار، في حديث لـ«الأخبار»، إلى أنّ «الأميركيين قدّموا تنازلاتهم عبر تسليم ملف حل الأزمة السورية للروس».
ورغم التنسيق الروسي ــ السوري في ما يخصّ قرار أمس الذي أعلن بعد اتصال بوتين بنظيره السوري الرئيس بشار الأسد، وتأكيد موسكو «استمرار دعمها لدمشق في مجال مكافحة الإرهاب»، لا يبدو أنّ القرار سهل الهضم سورياً. فالسقف الموضوع لمحادثات جنيف و«الخطوط الحمر» حول مقام الرئاسة والدستور وتعريف الإرهاب سوريّاً، لا يتناسب مع الإعلان الروسي وعطفه على دفع عملية السلام. وعلمت «الأخبار» أنّ دمشق أكدت لموسكو عبر قنوات دبلوماسية متعدّدة، خلال الشهر الماضي، أنّ مسألة «المرحلة الانتقالية» بالشكل الذي يُطرح دولياً، وبقاء الرئيس الأسد، خارج التداول.
التباينات الروسية ــ السورية ليست وليدة إعلان أمس. فعلى سبيل المثال، ردّ مندوب الروسيا لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، على تصريحات الرئيس السوري التي أكد فيها (مقابلة مع وكالة «فراس برس» منذ نحو شهر) «فصل المسار التفاوضي عن مسار مكافحة الإرهاب»، وأنّ هدف دمشق «استعادة كل الأراضي السورية». تشوركين في مقابلته مع صحيفة «كومرسنت» (المقرّبة من الكرملين، والتي تولّت نشر انتقادات حادة للأسد بعد مقابلته المشار إليها أعلاه) اعتبر تصريحات الأسد «لا تنسجم مع الجهود الدبلوماسية لروسيا». وأضاف: «أودّ أن أرى الأسد يأخذ في الاعتبار الجهود الروسية السياسية والدبلوماسية والعسكرية المبذولة في سوريا»، مشيراً إلى أنّه «إذا ما حذت السلطات السورية حذو روسيا، فسيكون لديها الفرصة للخروج من الأزمة باستحقاق، لكن إذا ما ابتعدت عن هذا الطريق على نحو ما، فسيكون الوضع صعباً للغاية وبالنسبة إليهم أيضاً».
بعد كلام تشوركين، جاءت «قنبلة» نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف عن إمكانية تطبيق الفيدرالية في سوريا. ورغم أنّ التصريح جاء ردّاً على سؤال وأعقبه توضيح من الخارجية الروسية، جاء كلام وزير الخارجية السوري وليد المعلّم يوم السبت ليحسم بأنّ «وفد بلاده لن يحاور أحداً يتحدث عن مقام الرئاسة»، وبأنّ وحدة البلاد خطّ أحمر، رافضاً أي حديث عن الفيدرالية.
السقف الروسي يبدو غير متّسق مع ما تعلنه دمشق منذ بدء الحرب التي قاربت من إنهاء عامها الخامس. موسكو ترى أنها حمت مقام الرئاسة السورية، وأجبرت خصوم دمشق على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بالحدّ المقبول من التنازلات، لكن على ما ينقل زوّار دمشق عن المسؤولين السوريين، لا ترى العاصمة السورية، رغم ذلك، مجالاً «لتسوية مع إرهابيين يحملون السلاح... لذا إلقاء السلاح أولاً ثم التفاوض».
الرئاسة السورية نفت أمس ما تردد عن أنّ إعلان سحب روسيا قواتها يعكس خلافاً بين البلدين. وأضافت، في بيان، أن الرئاسة السورية «تؤكّد أن الموضوع برمته تمّ بالتنسيق الكامل بين الجانبين، وهو خطوة تمّت دراستها بعناية ودقّة منذ فترة على خلفية التطوّرات الميدانية الأخيرة، وآخرها وقف العمليات العسكرية».
وفي هذا الإطار، تفيد معلومات «الأخبار» بأنّ موسكو بدأت بسحب عدد من طائراتها من مطار حميميم منذ أسبوع. بعد 5 أشهر ونصف شهر من العمل العسكري «تحقّقت معظم أهدافه» بالنسبة إلى موسكو، وستظهر الأسابيع المقبلة إنْ كانت الأطراف الأخرى المرتبطة بواشنطن، ستلاقي موسكو فعلاً في منتصف الطريق لإنهاء الحرب، والتفرّغ لقتال «الإرهابيين». المنطقة تنتظر ردود فعل حقيقية من تركيا والسعودية وقطر، وكذلك من إيران وحلفائها. سقف «الرئيس، والدستور، ووحدة الأراضي السورية» هو المعلن سورياً، بتقاطعات محسوبة مع الحليف الروسي منذ دخول مظلته الجوية.
«السوخوي» لن تغيب عن ال