في تطور مفاجئ قد تكون له تبعات على مسار الأزمة في سوريا ومصير رئيس النظام بشار الأسد، قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب قواته الرئيسية من سوريا، في خطوة وصفتها مصادر ديبلوماسية في موسكو لـ«المستقبل» بأنها جاءت «بهدف الضغط على نظام الأسد وإيران للكفّ عن عرقلة المسار السياسي». وجاء هذا التطور بالتزامن مع مفاوضات جنيف التي سبقتها إشارة دلت على أنها ستكون مختلفة عن سابقاتها لجهة إمكان أن توصل الى تسوية بعد خمس سنوات من الدم والدمار، مع تأكيد المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا أن الانتقال السياسي سيكون «أساس كل القضايا» التي ستتم مناقشتها مثبّتاً مرجعية قرار مجلس الأمن 2254 المغطى من قبل الراعيين الدوليين للمفاوضات، روسيا والولايات المتحدة، وذلك في رد مباشر على تصريحات لرموز في النظام السوري حاولت رسم «خط أحمر» تحت مصير بشار الأسد باعتباره خارج التفاوض.

إشارة دي ميستورا جاءت في مؤتمر صحافي عقده قبيل انطلاق مفاوضات جنيف، اعتبر خلاله أن «هذه هي لحظة الحقيقة»، اكتسبت دلالة أكثر إيلاماً لنظام الأسد، مع إعلان الرئيس بوتين مساء قرار سحب الجزء الرئيسي من القوات الروسية، التي لعبت دوراً بارزاً منذ أيلول الماضي في إمالة دفة الميزان الميداني لمصلحة الأسد، ما يعني عملياً سحب الغطاء عن هذا النظام وإجباره على الانخراط في التفاوض وفقاً للمرجعية الدولية التي حددها دي ميستورا.

المعارضة السورية سارعت الى التقاط دلالة قرار بوتين فرحبت به معتبرة أن الانسحاب الجاد سيضغط على النظام ويعطي محادثات السلام قوة دفع إيجابية، خصوصاً أن الكرملين قال إن بوتين أبلغ الأسد في اتصال هاتفي بأن الهدنة السارية في سوريا، أسهمت في تهيئة الظروف المواتية لبدء عملية التسوية السياسية للنزاع تحت إشراف الأمم المتحدة.

وقال الكرملين في بيان إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي باراك أوباما ناقشا الأزمة السورية عبر الهاتف، وأبلغ بوتين أوباما أن القوات الروسية ستبدأ الانسحاب من سوريا بعدما استكملت «المهام الأساسية» في مكافحة الإرهاب. ونقلت فضائية «العربية» أن أوباما رحّب بالخطوة الروسية.

وقال الكرملين «دعا الرئيسان إلى تكثيف العملية من أجل تسوية سياسية للصراع السوري، وعبرا عن دعمهما للمحادثات التي ترعاها الأمم المتحدة وبدأت في جنيف بين الحكومة السورية والمعارضة«. 

وأعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي تناقش هاتفياً مع نظيره الروسي حول «الانسحاب الجزئي» للقوات الروسية الذي أعلنه الكرملين. وأوضح البيت الأبيض في بيان أن الرئيسين تناقشا في «إعلان الرئيس بوتين انسحاباً جزئياً للقوات الروسية من سوريا والخطوات المقبلة اللازمة للتنفيذ الكامل لوقف الأعمال القتالية».

وكان البيت الأبيض تعامل بحذر مع إعلان الرئيس الروسي، واعتبر أنه من السابق لأوانه التكهن بالتداعيات المحتملة لقرار من هذا النوع على المفاوضات الجارية في جنيف. وقال جوش ايرنست، المتحدث باسم الرئيس الأميركي باراك أوباما، «لا بد لنا من أن نعرف بدقة ما هي النيات الروسية». وأضاف في مؤتمره الصحافي اليومي «من الصعب علي أن أقوّم التداعيات المحتملة لهذا القرار على المفاوضات الجارية».

وذكر المتحدث أن الولايات المتحدة كانت على الدوام تشدد على أن التدخل العسكري الروسي يجعل الجهود الآيلة للتوصل الى مرحلة انتقالية سياسية في سوريا «أكثر صعوبة». 

وقال مسؤول أميركي طلب عدم الكشف عن اسمه «نأمل أن نعرف المزيد عن الموضوع خلال الساعات المقبلة».

وقال مسؤولان أميركيان طلبا عدم نشر اسميهما إن واشنطن لم تتلق أي إشعار مسبق لقرار بوتين. وأضافا أن الولايات المتحدة لا ترى مؤشرات حتى الآن على استعدادات للقوات الروسية للانسحاب من سوريا. 

وقال وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير إن الأسد سيكون تحت ضغط للتفاوض على انتقال سلمي لإنهاء الحرب الأهلية السورية إذا سحبت روسيا معظم قواتها من البلاد. وأوضح شتاينماير في بيان «وإذا تحقق إعلان سحب القوات الروسية فسيزيد ذلك الضغط على نظام الأسد للتفاوض بجدية في نهاية المطاف على انتقال سياسي سلمي في جنيف» في إشارة إلى محادثات السلام الجارية في المدينة السويسرية.

وعبر ديبلوماسي أوروبي عن تشككه، وقال «من الممكن أن يضع ذلك كثيراً من الضغط على الأسد والوقت ملائم لذلك«. لكنه أضاف «أقول أيضاً من الممكن لأننا شاهدنا من قبل أن ما تعد به روسيا ليس دائماً ما يحدث«.

وأكد وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان في مقابلة أجرتها معه صحيفة «لوفيغارو« إن القوات الروسية توقفت عملياً عن قصف المعارضة السورية المعتدلة. وجاءت تصريحات لودريان قبل أن يعلن بوتين أنه سيبدأ في سحب قواته المسلحة من سوريا. وأضاف لودريان «الروس.. توقفوا عملياً عن قصف المعارضين المعتدلين»، مضيفاً أن الروس ينفذون هجمات على تنظيم «داعش» المتشدد.

وكان وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم، أعلن الأسبوع الماضي أن الحديث عن مصير الأسد «خط أحمر» وهو «ملك الشعب السوري»، وأن وفد النظام الذاهب إلى جنيف «لن يحاور» أحداً يبحث في «مقام الرئاسة»، ما استدعى رداً من وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي رأى أنها «محاولة واضحة لتعطيل العملية السياسية»، مطالباً الرئيس الروسي بأن «ينظر كيف يتصرف بشار الأسد«.

وقال كيري متّهماً رئيس النظام السوري بالتعطيل المتعمّد ومؤكداً موافقة الروس والإيرانيين على طرح بند مصير الأسد في المفاوضات، بأن الأخير أرسل «وزير خارجيته كي يخرّب ما وافق عليه الرئيس بوتين والإيرانيون«.

ويبدو من مسار التطورات أن «المعلم الروسي» نظر فعلاً كيف يتصرف الأسد، فكان قرار سحب القوات عقب اتصال أجراه بوتين مع الأسد، سارع بعده الى استدعاء وزيري الدفاع سيرغي شويغو والخارجية سيرغي لافروف الى الكرملين وإبلاغهما بقراره.

ففي خطوة مفاجئة قال الرئيس الروسي إنه أصدر تعليمات لقواته المسلحة للبدء في سحب «الجزء الرئيسي» للقوات من سوريا وأمر بتكثيف الجهود الديبلوماسية الروسية بغية التوصل لاتفاق سلام في سوريا مع استئناف محادثات السلام برعاية الأمم المتحدة في جنيف بهدف إنهاء الحرب المستمرة منذ خمس سنوات.

وأوعز الرئيس الروسي لوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بسحب القوات الرئيسية من سوريا خلال لقاء ثلاثي جمع بوتين بشويغو ووزير الخارجية سيرغي لافروف في الكرملين، الذي أعلن ناطق باسمه أن «ما خرج به اللقاء (الثلاثي) تم بالتنسيق مع الرئيس السوري بشار الأسد«.

واعتبر بوتين أن «المهمات التي كلفت بها القوات الروسية في سوريا تم إنجازها«. وقال خلال اللقاء: «أعتبر أنه تم تنفيذ أغلب مهمات وزارة الدفاع والقوات المسلحة، لذلك آمر وزير الدفاع ببدء سحب الجزء الأساسي من مجموعتنا الحربية من الجمهورية العربية السورية»، مؤكداً أن «الجانب الروسي سيحافظ من أجل مراقبة نظام وقف الأعمال القتالية، على مركز تأمين تحليق الطيران في الأراضي السورية«. وأكد أن «القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس ستواصلان عملهما كما في السابق«.

وأعرب بوتين عن أمله بأن بدء سحب القوات الروسية من سوريا سيشكل دافعاً إيجابياً لعملية التفاوض بين القوى السياسية في جنيف، وكلف بوتين وزير الخارجية «بتعزيز المشاركة الروسية في تنظيم العملية السلمية لحل الأزمة السورية«.

وقال بيان الكرملين إن بوتين والأسد، أكدا خلال اتصال هاتفي أمس بأن «الهدنة أسهمت في تراجع حاد لوتيرة سفك الدماء في سوريا، وتحسن الوضع الإنساني في البلاد، وتهيئة الظروف المواتية لبدء عملية التسوية السياسية للنزاع تحت إشراف الأمم المتحدة«. وأشارا إلى أن عمل سلاح الجو الروسي «سمح بتحقيق نقلة نوعية في محاربة الإرهابيين وتشويش بنيتهم التحتية وألحق بهم خسائر بشرية جسيمة«.

وذكر البيان أن الرئيس الروسي أكد أن القوات المسلحة الروسية «نفذت المهمات الرئيسية التي كلفت بها، وتم الاتفاق على سحب الجزء الأكبر من مجموعة الطيران الحربي الروسي من سوريا، مع إبقاء مركز مكلف بضمان تحليقات الطيران في سوريا، وذلك بهدف مراقبة تنفيذ شروط وقف الأعمال القتالية«.

كما جاء في البيان أن الأسد أشاد «بمهنية وبطولة الجنود والضباط الروس الذين شاركوا في الأعمال القتالية، وأعرب عن امتنانه«. وأشار الأسد أيضاً ـ وفق بيان الكرملين ـ إلى استعداد نظامه «لبدء العملية السياسية في البلاد بأسرع ما يمكن، معرباً عن أمله أن تثمر المفاوضات التي بدأت في جنيف بين الحكومة السورية وممثلي المعارضة بنتائج ملموسة«.

وقال المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف إن بوتين والأسد لم يناقشا مستقبل رئيس النظام في المكالمة الهاتفية.

ورحبت المعارضة السورية بقرار موسكو، قائلة إن الانسحاب الجاد سيضغط على النظام ويعطي محادثات السلام قوة دفع إيجابية. وقال سالم المسلط المتحدث باسم الهيئة العليا للمفاوضات إنه إذا كانت هناك «جدية» في تنفيذ الانسحاب فسيعطي ذلك دفعة إيجابية للمحادثات. وأضاف المسلط أنه إذا كانت هذه خطوة جادة فستشكل عنصراً أساسياً للضغط على «النظام» وستتغير الأمور كثيراً نتيجة لذلك.

وقال كبير المفاوضين في محادثات السلام السورية في جنيف إن انسحاب الجيش الروسي بشكل حقيقي من سوريا سيكون تطوراً إيجابياً لكن لا يوجد مؤشر على ذلك إلى الآن. وقال محمد علوش رئيس المكتب السياسي لجماعة جيش الإسلام وهو كبير المفاوضين للمعارضة في المحادثات التي تجري في جنيف «أرحب بانسحاب روسيا إن كان حقيقياً وليس مجرد مناورة«. وأضاف في رسالة على برنامج التراسل «واتساب« من جنيف «لا يوجد مؤشرات على التنفيذ«.

وفي هذا السياق، قالت مصادر ديبلوماسية في موسكو لـ»المستقبل» إن قرار سحب الجزء الرئيسي من القوات الروسية، جاء بهدف الضغط على النظام السوري وإيران للكف عن عرقلة المسار السياسي، وبعد المواقف الأخيرة للنظام التي حاولت الالتفاف على العملية السياسية التي تقودها موسكو جنباً إلى جنب مع واشنطن.

وتزامناً مع انطلاقة العملية التفاوضية في جنيف أمس، صدرت إشارة بارزة تقود إلى استنتاج أن هذه الجولة تحمل جدية والتزاماً دولياً بالتوصل إلى حل للأزمة السورية، وجاءت على لسان المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا الذي أعلن أن عملية الانتقال السياسي في سوريا هي النقطة الأساسية التي سيتناولها مع الأطراف السورية خلال مفاوضات جنيف التي بدأت أمس، وذلك استناداً إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2254.

وحذر دي ميستورا الأطراف المتحاربة من أنه لا توجد خطة بديلة سوى استئناف الحرب إذا لم تحرز المحادثات التي تهدف إلى وضع «خارطة طريق واضحة» لعملية السلام تقدماً.

وقبل إعلان بوتين الانسحاب قال دي ميستورا إن سوريا تواجه لحظة حقيقة في مستهل المحادثات التي تهدف إلى إنهاء الصراع المستمر منذ خمس سنوات وأسفر عن نزوح نصف السكان ودفع بموجات من اللاجئين إلى أوروبا وحوّل سوريا إلى ساحة معارك لقوى أجنبية ومتطرفين.

ووصف بشار الجعفري رئيس وفد الحكومة السورية في محادثات جنيف لقاءه الأول مع دي ميستورا بأنه إيجابي وبناء مضيفاً أنه قدم وثيقة بعنوان «العناصر الأساسية لحل سياسي». وقال دي ميستورا إن بعض الأفكار قد طُرحت في الاجتماع الذي وصفه بأنه جلسة تحضيرية قبيل اجتماع آخر يوم الأربعاء سيركز على المزيد من الموضوعات الأساسية.

ولدى سؤاله عن الفجوة الهائلة بين مطالب الفريقين قال دي ميستورا إنه من طبيعة المفاوضات أن يبدأ كل من الفريقين بمواقف متصلبة. وتابع المبعوث الدولي إن المحادثات يجب أن تركز على الانتقال السياسي الذي وصفه بأنه «أم كل القضايا» فيما ستتولى مجموعات عمل منفصلة القضايا الإنسانية ووقف الأعمال القتالية. وقال «على حد علمي فإن الخطة البديلة الوحيدة المتوفرة هي العودة إلى الحرب وحرب أشد حتى مما شهدناه حتى الآن«.

وكان دي ميستورا أعلن قبل صدور القرار الروسي، أن الانتقال السياسي هو «أساس كل القضايا» التي ستتم مناقشتها خلال مفاوضات جنيف حول سوريا التي بدأها رسمياً الاثنين بلقاء مع وفد الأسد.

وقال في مؤتمر صحافي عقده في مقر الأمم المتحدة «هذه هي لحظة الحقيقة»، متسائلاً «ما هي النقطة الأساسية؟ الانتقال السياسي هو النقطة الأساسية في كل القضايا» التي ستتم مناقشتها بين وفدي الحكومة والمعارضة السوريتين.

وقال إن «جدول الأعمال قد وضع استناداً الى القرار الدولي 2254، وفي إطار توجيهات إعلان جنيف بالطبع».

وتستمر الجولة الحالية حتى 24 آذار، ثم تبدأ الجولة الثانية بعد توقف لمدة أسبوع أو عشرة أيام، على أن تستمر لمدة «أسبوعين على الأقل». وتُعقد جولة ثالثة من المفاوضات بعد توقف مماثل.