تحلّ ذكرى انطلاقة 14 آذار اليوم، في خضم مرحلة خلافية صعبة، أدّت إلى حصول تصدّع في قيادة هذه الحركة الاستقلالية التاريخية، يُهدّد استمراريتها، أو على الأقل ينال من فعاليتها الوطنية والسياسية.
ولا بدّ من المصارحة بأن ما وصلت إليه حركة 14 آذار من تراجع وتردٍ، هو نتيجة طبيعية لتراكم هذا الكمّ من الأخطاء، فضلاً عن التراخي الظاهر في تصويب الممارسة والمسار، وغياب النقد الذاتي للأداء القيادي!
يُضاف إلى كل ذلك، تضارب وجهات النظر والمواقف والاجتهادات، بين القيادات، والذي زاده تفاقماً هذا الغياب غير المبرّر في تنسيق المواقف، وتكثيف الاجتماعات، وتقييم الأمور بمعايير وطنية شاملة، بعيداً عن الحسابات الحزبية والفئوية، أو حتى الطائفية والمناطقية.
لم يعد سراً، أن هذا المناخ غير الصحيّ بين أطراف 14 آذار، أفرز، مع الوقت، حساسيات شخصية، زاد تفاعلاتها تعقيداً، عدم وجود مَن يحاول تطويق الخلافات، وتقريب وجهات النظر، بل لعل العكس هو الذي حصل، حيث نشط بعض المتسلقين في التلاعب بخطوط هذه الخلافات، وتحويل بعضها إلى مادة صدامية بين حلفاء الأمس!
لقد حوّلت هذه الخلافات الذكرى الحادية عشرة، التي تصادف اليوم، إلى مناسبة باهتة، تجمع ما تيسّر من قيادات الصف الثالث أو الرابع، في ظل غياب جماهيري كامل، بعدما كانت هذه الذكرى بالذات، تشكّل محطة مهمة في المسيرة الاستقلالية والسيادية، كانت حشود اللبنانيين تزحف إلى ساحتها بالآلاف، للمشاركة في رفع رايات السيادة والحرية والاستقلال، والتغني بمواصف الدولة العصرية، القادرة على بسط سيادتها وشرعيتها على الجميع، والعمل على قيام السلطة العادلة عبر تحقيق المساواة بين المواطنين، ورفع أيدي السياسيين والأحزاب عن القضاء.
لسنا في وارد نعي أهم حركة وطنية، عابرة للطوائف والمناطق، والتي حققت مصالحة وطنية حقيقية ومشهودة بين اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، واستطاعت أن تجنّب لبنان مخاطر الوقوع في مهاوي الفتن الطائفية والمذهبية، وأنجزت أهم المطالب السيادية والاستقلالية من إنهاء نظام الوصاية السورية، والسعي إلى إقامة المحكمة الدولية، وتحصين أمن الحدود الجنوبية عبر القرار الدولي 1701، الذي أوقف عدوان تموز 2006، وعزز وجود وفعالية القوات الدولية في الجنوب اللبناني، فضلاً عن تغليب شعار الاعتدال والانفتاح والحوار، على ما عداها من مواجهات السلاح والعنف والتطرّف، المحيطة بالوطن الصغير من كل حدب وصوب.
الحقيقة، أن واقع العلاقات المتردّي بين بعض القيادات، لا يقلل من قوة وأهمية المبادئ والشعارات التي رفعتها حركة 14 آذار، والمتجذرة في وجدان كل لبناني يتطلع إلى بناء دولة تسودها العدالة والمساواة، وتقوم على الديمقراطية والحرية، وتلتزم حقوق مواطنيها في العيش الكريم، في مناخات من الأمن والاستقرار، بعيداً عن العصبيات الطائفية والهيمنات الحزبية والميليشياوية.
لقد حققت التظاهرة المليونية يوم 14 آذار 2005، التصالح بين ذاكرة الماضي ورؤية المستقبل في بوتقة وطنية كان مقدراً لها أن تكون مفصلاً أساسياً في تاريخ لبنان الحديث، فيما لو أحسنت القيادات السياسية والحزبية التعامل مع هذه الحركة الجماهيرية العفوية، ووضعتها في إطار برنامج سياسي، واضح المنطلقات والأهداف، تتوزع مهامه في مراحله المختلفة على الجميع، ويكون عنصر الشباب هو قاعدة المنطلق، والهدف المرتجى.
مع غياب البرنامج السياسي الواحد لقوى 14 آذار، بدأت المسافات تكبر، بين القيادة والقاعدة، وراحت التباينات تتزايد بين القيادات نفسها، الأمر الذي أدّى، وإلى حدّ كبير، إلى التردّي الحالي في الأداء والمسار!
ثمة مَن يقول أن حالة فريق 8 آذار المتصدعة ليست أفضل من واقع 14 آذار، وأن الوقت قد يكون مناسباً لطي صفحة هذا الانقسام العامودي، خاصة وأن مبادرة الرئيس سعد الحريري ترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وردّة فعل رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع بتبني ترشيح العماد ميشال عون، قد حرّكتا المياه الراكدة في الوضع السياسي، وأدتا إلى عملية خلط أوراق ولدت حركة تفاعلية في المعادلة الداخلية، من شأنها، في حال استمرارها وتطورها، أن تؤدي إلى خلق وقائع سياسية جديدة على الأرض.
غير أن تلاشي فعالية ووحدة 14 آذار، لا يعفي أحداً من قياداتها، وخاصة «القوات اللبنانية»، من الاستمرار بالتزام المبادئ والأهداف الوطنية الكبيرة التي قامت عليها ثورة الأرز، والتي سقطت في مسيرتها كوكبة من الشهداء، تقدموا الصفوف في رفع رايات الحرية والسيادة والاستقلال، وارتفعوا بتضحياتهم عالياً فوق الحزازات الشخصية، والمصالح الأنانية والفئوية، وأصبحوا المثل والمثال للأجيال الشابة التي تحلم بوطن يستحق الحياة على أرضه!
فهل تطوي قيادات 14 آذار صفحة خلافاتها، قبل أن يطوي التاريخ صفحتها، وتذهب دماء الشهداء هدراً منثوراً على دروب الانفعالات والحسابات الخاطئة؟!
إنه التحدّي الأكبر الذي يواجه حركة 14 آذار اليوم!