قيل قديماً : ومن الحب ما قتل .. كثيرة هي القصص والحكايات التي قرأناها أو سمعنا عنها تروي قضية حب انتهت للأسف بموت أحد العاشقين أو كليهما، كليوباترا وأنطونيو أو قيس وليلى، عبلة وعنتر أو فرنسيسكا وباولو وغيرهم الكثير.
صحيح أننا قد نتأسف على النهايات المأساوية لهذه الروايات من الحب، إلاّ أنّها بلا شك تحمل في طياتها الكثير الكثير من المعاني الإنسانية الرفيعة، ومن روح التسامي والرقي، ما جعل من تلك القصص محل ترحيب وتعظيم خلدت ذكراها واستمر الناس بتناقلها على إنّها من روائع الفضائل الإنسانية بالرغم من النهايات الحزينة.
وعند سماع أحدنا لواحدة من تلك الحكايات الجميلة لا يجد بدا ألاّ تفهم عمق المشاعر وحلاوة تلك الأحاسيس المرهفة التي انتابت العاشقين بحيث يبرر لهما سوء العاقبة وسودواية النهايات ومأساوية الخاتمة. أما ما هو ملفت في غرائب التعقيدات البشرية وطبائعها الخارجة عن المألوف، هو ما نشهده في بلدنا لبنان لحب من نوع آخر، حب لا يمكن فهمه او استساغته أو حتى تأويله. هو هذه العاصفة من " الحب " التي تجمع بين الزعيم من جهة وبين أتباعه، بغض النظر عن سلوكيات الزعيم أو عن أفعاله وخياراته ومسلكه والأهم من كل ذلك ما قدمه ويقدمه للتابع المغروم.
بالأمس أطل سعد الحريري بمقابلته التلفزيونية ببرنامج كلام الناس مع مارسيل غانم، لم يأتِ بجديد ولم يقدم أيّ خطوة يمكن الوقوف عندها، أو البناء عليها ولكن بالمقابل شاهدنا وسمعنا وقرأنا ما يشبه التسونامي من مشاعر الحب والوله من أنصاره واتباعه، طبعاً الحالة عينها نشاهدها عند كل الاتباع ولكل الزعامات بدون أيّ استثناء، ولا يتردد أيّ من الجمهور عن إبراز حبه وعشقه لزعيمه ولو بأساليب مختلف وليس إطلاق الرصاص ابتهاجاً إلاّ واحدة من تلك المظاهر وأساليب التعبير التي تصل ببعضهم للموت في سبيل "صرماية أحد هؤلاء" .
فإذا كان "الحب" هو أرقى شعور إنساني إلاّ أنّه إذا ما كان بغير موضعه أو استعمل بمكان ليس مكانه قد يتحول هذا الحب إلى تعبير آخر ومعنى مختلف لا يمكن وصفه حينئذ إلاّ بالحمق والغباء. إذ ليس "للحب" مكاناً في طبيعة العلاقة التي يجب أن تربط الزعيم أو المسؤول بالمواطن، فوظيفة الأول هي خدمة الثاني والعمل على تأمين متطلباته والسعي إلى تحسين ظروفه الحياتية، إن أجاد بواجباته كان له منه كل الاحترام والود وإذا ما قصر او تلكأ فهو مدان ويجب أن يحاسب، هكذا يجب ان تكون المعايير التي تحكم العلاقة بين المسؤول في موقع المسؤولية وبين المواطنين. أما إذا ما حلّ " الحب " بينهما، كما في معظم البلدان المتخلفة بالخصوص إنّ هذا " الحب " بالغالب ما يكون من طرف واحد يعمي القلوب والأبصار والعقول عن كل ما يقترفه الزعيم لأنّه لم يعد يرَ المحب" المشحر" تلك الإقترافات ، لأنّ عين المحب عن كل عيب كليلة. فكيف يمكن له بعد ذلك أن يحاسبه أو حتى يطالبه عن تقصير أو عن سوء تصرف وهو لا يرى منه إلا كل فضيلة.
إنّ هذا النوع من "الحب" هو سبب تعثر كل المجتمعات المتخلفة، ويكاد يكون علامة فارقة عن الجهل واللاوعي المتحكم بعقول من يسير وفقه، ومن هنا يمكن فهم كل ما نحن فيه بلبنان من مآسي وتراجع وتدهور في اوضاعنا. فإذا كان جماعة الحريري يحبونه على كل حال وجماعة نصرالله يحبونه على كل حال وكذلك جماعة بري وجنبلاط عون وجعجع، فما هو الدافع عند هؤلاء لأن يخافوا على أنفسهم من السقوط والفشل عند مناصريهم؟ ولماذا يتوقع هؤلاء الأنصار الحمقى من زعاماتهم أن يبدلوا في سلوك زعاماتهم وأن يقدموا لهم ما يتمنون ؟ أستطيع أن أدعي أنّ علة العلل في لبنان هو هذا "الحب" الذي يقف حائلاً وسداً منيعاً في طريق المحاسبة والمساءلة التي لا بدّ منها كمقدمة ضرورية في طريق التطور والتقدم، وهو أيّ هذا "الحب " يعتبر أخطر بكثير من كل اساليب الاستبداد والقمع الذي تمارسه الأنظمة الديكتاتورية في سبيل إطالة أعمار حكمها بالقوة والسيطرة، لأنّ القمع هنا يكون ذاتي وبكامل إرادة المقموع، لا يمكن أن تقوم للبنان قائمة من دون العمل الجاد على تبديل العلاقة بين المسؤول والمواطن، وهذا طبعاً يحتاج الى مسيرة طويلة لخلق عملية الوعي من أجل القضاء على هذا "الحب" الأحمق فإذا كان بعض "الحب " قد يقتل عاشقين .. فإنّ " الحب" الأحمق يتسبب بقتل وطن.