في التاريخ الرسمي العربي زيفٌ راسخٌ مفاده ان الاستعمار الاوروبي هو الذي قسّم العالم العربي الواحد، وشرذم دولته القومية الموعودة الى دويلات مسخ، بينما الوثائق والشواهد والوقائع تؤكد ان ذلك الاستعمار، هو الذي فرض توحيد كيانات سياسية موسعة أكرهت قوميات وطوائف ومذاهب متناحرة طوال قرون، على إختبار التعايش والتفاعل والتوحد في أوطان، سُميّت أقطاراً من خريطة الوحدة المتخيلة.
وفي التاريخ نفسه زيفٌ ثابتٌ هو ان المستعمرين إياهم قسموا العالم العربي على هذا النحو المفتعل، فقط لكي تقوم وتدوم وتتحصن دولة اليهود في فلسطين، ولكي يتيحوا في ما بعد الفرصة الدائمة للعبث بالحدود القطرية الجديدة، والعمل في مرحلة ما على تعديلها وخلق دويلات-كيانات صافية قومياً او طائفياً او حتى مذهبياً.
الان، يبدو أن الوقت قد حان كما يبدو للانتقال الى المرحلة الثانية من ذلك المخطط الاستعماري القديم، بعدما ثبت، بما لا يدع مجالا للشك، فشل إختبار التعايش القومي والطائفي والمذهبي، داخل الكيانات الوطنية التي وضع المستعمرون الاوروبيون خرائطها على عجل(سايكس-بيكو)، ورسم الضباط الفرنسيون والانكليز حدودها على الرمال. …
يكاد البحث في تقسيم سوريا اليوم يصبح علنياً. ويكاد ذلك المحرّم الوطني والقومي يسقط من باب التحريم، ويتحول الى مخرج وحيد من المذابح الكبرى التي تشهدها بلاد الشام منذ خمس سنوات حتى اليوم . ولعل التجربة العراقية التي أعقبت الغزو الاميركي في العام 2003 ساهمت في كسر هذا التابو، الذي كانت الحرب الاهلية اللبنانية تمثل تحدياً دائماً له..لم يتم تخطيه حتى اليوم. ليس في سوريا ولا خارجها ما يشي بان ذلك الحاجز النفسي القديم ما زال قائماً. الاعتراض على إدراج التقسيم بنداً على جدول أعمال التفاوض، واضح وصريح، لكنه يعبر عن موقف مبدئي-نظري، أكثر مما هو ترجمة لخيار سياسي عملي. ثمة تسليم ضمني ملموس من جانب النظام والمعارضة معاً بان الامر يتعدى رغبة وإرادة كل منهما.. مع ان الجهود التي تبذلها المعارضة تحديداً لحفظ الوحدة الوطنية السورية ما زالت تقتصر على بعض الشعارات والهتافات العفوية، ولم تتبلور حتى الان في رؤية جدية تفرغ شعارات النظام من أهم محتوياتها.
ما زال البحث في مراحله الاستكشافية الاولى. التقسيم كان وارداً منذ اللحظة الاولى للثورة التي فجرت الانقسامات العميقة داخل الاجتماع السوري، المموهة في مراحل ما بعد الاستقلال، او المتوارثة منذ أجيال وقرون. وقد إكتسب ذلك هذا الخيار زخماً إضافياً عندما نزل الجيش الروسي في منطقة الساحل السوري، وسيّجها من جميع الجهات، متفادياً، حتى الان على الاقل، الانتشار في العاصمة دمشق، التي يمكن ان يكون حسم مصيرها هو البند الاخير على جدول الأعمال، والبقعة الاخيرة التي سترسم على خريطة التقسيم.
البحث علني جداً بحيث يستحيل على أي طرف سوري او غير سوري أن يدعي انها مؤامرة تطبخ في الغرف السوداء، الاميركية الروسية، على غرار “مؤامرة” سايكس-بيكو التي لم يعرف بها أحد من العرب الا بعد توقيعها بسنوات. أو أن يزعم أنه من الصعب مواجهة هذا المخطط، طالما انه لم يبدأ رسم الحدود السورية الداخلية، وما زال الامر يتمثل في بعض المسودات الاولية لخريطة فيدرالية الواقع التي فرضتها طبيعة الصراع.
مازال يمكن التعامل مع الافكار التي تطلقها واشنطن وموسكو معاً، بوصفها ضغطاً سياسياً على أطراف الحرب السورية لكي يوقفوا مسار تفتيت الكيان السوري، ويعدّلوا مسيرة الانتحار الجماعي للقوميات والطوائف والمذاهب السورية. المؤكد ان الاميركيين والروس لن يتمسكوا بالوطنية السورية اكثر من السوريين أنفسهم، ولن يتكلفوا عناء الحفاظ على الهوية السورية الممزقة الان مهما كانت تلك الكلفة متواضعة.
من المبكر الحديث عن قيام ثلاث او أربع دول مستقلة في سوريا، كما يحكى في بعض العواصم. لعل الفيدرالية مخرجٌ عفويٌ وفوريٌ من المذابح. لكنها ليست حائلاً دون التقسيم الذي يهدف كما يبدو الى تخفيف العبء عن الاميركيين والروس، لكنه يغرق سوريا في المزيد من الدماء والدمار، ويطلق المزيد من حمم البركان المشرقي المتفجر.
هذا هو عنوان العام السادس من الحرب السورية الكبرى..والازمة العربية الأكبر.