عرضت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" فيلماً وثائقياً أعدته الصحافيّة البريطانيّة ستايسي دولي، بعنوان "الجنس في أماكن غريبة: تركيا". قدم الفيلم خمس قصص مختلفة عن عالم الجنس في تركيا، كان للسوريين منها نصيب.
على مدار خمسين دقيقة، تربط الصحافية بين حكايات فيلمها بشكل سلس ومنطقي، وتضع المشاهد في أجواء البلاد عبر المشاهد الجانبية الملتقطة لتفاصيل الحياة في تركيا. العمل هو الجزء الأوّل من سلسلة مؤلّفة من ثلاثة أجزاء، تبدأ في تركيا، وتنتقل إلى البرازيل وروسيا.
يتنقل الفيلم بين مدينتي غازي عنتاب القريبة من سوريا، واسطنبول السياحية. يبدأ بسرد حكايتين لسيدتين قادمتين من سوريا (ليلى وهبة). تظهر المشاركتان بنقاب كامل وترويان تفاصيل الحياة التي عاشتاها في إحدى مناطق سيطرة تنظيم "داعش"، حيث أجبرتا على الزواج من "جهاديين". تقصان بعض التفاصيل التي يحبها الإعلام عن سوق النخاسة لدى "داعش" و "جهاد النكاح"، من دون أن تسمياه بشكل مباشر.
بعد ذلك، يروي الفيلم حكايات من عالم الجنس في اسطنبول. يدخل أحد بيوت الدعارة، ويناقش أسباب إقبال الرجال الأتراك على هذه البيوت. "نساؤنا قبيحات وسمينات ولا يلبين رغباتنا الجنسية، هنا نستطيع أن نفعل ما نريد". أحد أشخاص الفيلم يتحدَّث عن غشاء البكارة والجنس قبل الزواج، والعادات الاجتماعية في البلد المحافظ التي تقضي بقتل الفتاة في حال فقدت عذريتها قبل الزواج.
كذلك يروي الفيلم حكاية متحوّلة جنسية في تركيا تدعى دوريا، وما تعانيه من مشاكل اجتماعية. خلال سرد حكاية دوريا، تظهر لقطات لمظاهرات تشارك فيها لصالح "حزب الشعب الجمهوري التركي" الذي أسسه مصطفى أتاتورك، وهو حزب قومي تركي علماني، على خلاف حزب "العدالة والتنمية" الحاكم المرتبط بجماعة "الإخوان المسلمين". تقول دوريا: "أحمل معي سكيناً وبخاخاً وحتى صاعقاً كهربائياً لحماية نفسي... المتحولون جنسياً هنا مهدّدون بالقتل".
بعدها يتناول الفيلم حكاية شاب مثليّ جنسيّاً. يقول الشاب: "اغتصبت أوّل مرة من قبل ثلاثة شبان دفعوا لي مبلغاً من المال مقابل ذلك، هربت إلى الشرطة فأسكتوني وقاموا بطردي".
يحتوي الفيلم على لقطات تشويقية، مثلاً تقف مُعدّته دولي في شارع مخصَّص للدعارة، فيقصدها فتيان ويعرضون عليها الجنس ظناًّ منهم أنها إحدى عاملات الجنس. أحد الشبان يحاول أن يشرح لها ما يريد، يخرج هاتفه المحمول ويعرض لها صوراً تشرح قصده. وفي لقطة أخرى تجلس دولي في منزل دوريا الذي يعمل في الدعارة، وتنتظر في غرفة مجاورة أن يرحل زبونها.
بعد ذلك يقدّم الفيلم حكاية سيّدة سورية أخرى تتسوّل لتعيش، وتمارس الجنس مقابل المال أيضاً من دون علم زوجها، بعد هربهم إلى تركيا بهدف تأمين لقمة العيش، كما تقول في الفيلم. أثناء سرد حكاية المتسولة يصوّر الفيلم التمييز العنصري الذي يعاني منه السوريون في تركيا. "كثيراً ما يقومون بدفعي ومنعي من دخول مناطق عديدة لأني سورية"، تقول فاطمة (اسم مستعار).
الغريب في قصّة فاطمة أنّها تتحدّث اللغة التركيّة بطلاقة، ولا يبدو على لهجتها أيّ أثر للعربيّة أو الكرديّة. وعلى الرغم من التلاعب بالصوت من قبل معدي الفيلم بهدف طمس هويتها (ربما بداعي حمايتها)، فإنّ مخارج الحروف لديها لا تدع مجالاً للشك بأنّها تركيّة وليست سوريّة. ربما تكون معدّة الفيلم وقعت ضحية كذب المتسولة، خصوصاً مع انتشار ظاهرة التسول باسم السوريين، أو ربما هي قصة مختلقة، وفي كلا الحالتين فإنّ تلك ثغرة كبيرة في الفيلم رغم تماسكه. من ثغرات الفيلم أيضاً، الاقتصار على سرد الحكايات على لسان أبطالها، وعدم التطرّق لقوانين البلد أو استضافة خبراء في القانون أو حتى أحد ممثّلي الجمعيات المدنية ذات الشأن، ما أسقط عنه الجانب التوثيقي، وحوّله إلى فيلم درامي إنساني لا أكثر.
تعاطف معدّة الفيلم ستايسي دولي مع أبطال فيلمها يبدو جليّاً في معظم لقطاته. يبدو أن الرسالة التي أراد الفيلم تقديمها، سياسيّة بالدرجة الأولى. يكشف العمل شكل الحياة في ظلّ حكم "العدالة والتنمية"، وما فيه من قمع للحريّات. لكنّ غياب الرأي العلمي والقانوني عن الفيلم، جعله يضيع في التفاصيل.
بسبب موضوعه الـ "تابو"، قد يحقق الفيلم نسب مشاهدة عالية، تذكّر بما حقّقته الصحافية ستايسي دولي العام 2009، عندما تناولت بسلسلة أفلام، قضية عمالة الأطفال في البلدان النامية. إلا أنّ فيلم "الجنس في أماكن غريبة" عجز عن تقديم محاكمة عقلية متكاملة وإلمام محايد بالقضية التي تناولها، إضافة إلى ثغرات أخرى متعلقة بشخصيّات الفيلم ذاتها، ومصداقيتها.
( السفير)