لفتني نظري وأنا أقرأ كتاب "كلمات من أوروبا" للأديب "نجيب جمال الدين" الذي رافق السيد موسى الصدر في رحلته إلى أوروبا، كتب تحت عنوان"أجمل الحلال الموسيقى"...قد يبدو للوهلة الأولى أنَّه كيف يمكن للسيد موسى الصدر أن يجيز سماع الموسيقى باعتبار أن النهي عنها من المسلمات في الشريعة الإسلامية،وخصوصاً من الذين يملكون غضاضة وغضارة في الدين، كما كان في عهد الصدر الأول وشدَّته في النهي عن العزف وعن سماع الموسيقى..
وأما اليوم فسلطان الوجدان فوق سلطان الأديان،وهذا ما يدل على أنَّ الموسيقى وبالأخص الموسيقى الإيرانية فهي قريبة إلى القلوب والعقول والأسماع،وأيضاً الموسيقى العربية فهي وجدانٌ رائقٌ شفَّاف تأخذ منه مختلف الأنغام،وهي بقية خواطر النفس وقد تكون أفصح نطقاً من البيان واللسان،وتعتبر الموسيقى فنٌّ من فنون الطبيعة،تهتدي إليها البشرية بالفطرة المترنِّمة في هديل الحمام وخرير المياه وحفيف الأشجار وزقزقة العصافير..
ولهذا نرى الشعر العربي في قافيته وأوزانه وتفعيلاته،بمذهبهم في الشعر ألحاناً موسيقية من بحر هذا الفن الزاخر، واستمر هذا الشأن حتى جاء الإسلام واختلطت الأمة العربية بالأمة الفارسية التي اكتسبت من حضارتها وتمدينها متسع للبراعة في هذا الفن،ووفد الكثير من مبدعي الفرس ومبدعي الروم بالمعازف والمزامير، يُلحنون الشعر بألحان موسيقية ،واقتبست العرب ألحاناً وأنغاماً كما في جميع الفنون التي كانوا يقتبسونها من الأمم المتقدمة والمتطورة المعاصرة..يقول رفيق السيد موسى الصدر كنا في مدينة (آخن) الألمانية نستمع إلى موسيقى إيرانية، لا أدري من أي أرض قطف ثمرها المبدع ،ولا أدري بأي فرنٍ شواها ثمَّ رماها، يداوي بها الزمنى والجرحى والجياع إلى الألوهة المتأنسة...
وشارك الرذاذ المتساقط خارجاً،والضوء الخافت في الداخل، وكوننا في أرض الأساتيذ الأساطين،على تملِّي الأنغام الشجية،والألحان الراكضة في الغربة.. وسألتُ (السيد) لماذا يُحرِّمون هذه الحرية الراقية في التصرف المبدع،وهذه المجانية في العطاء،وهذه البساطة التي انقلبت إلى تسبيح..؟ لا بل هذا التحرك الذي يُقرِّب من عرش الله..؟ قال السيد موسى الصدر:"من يُحرِّم..؟ الإسلام بريء من تعقيم الإنسان"..التصوف الذي سمعناه بهذه الموسيقى ،وما يحمل من مضامين الحسّ،سواء بغربته عن الأرض،وحنينه إلى للمجهول،أو شدِّه الماضي إلى الحاضر،وربطه بالمستقبل،هو وحده الذي يحمي الإنسان من جدار نفسه .