ترجل من عربته العسكرية " الجيب "، وتوجه مباشرة نحو السيارة الواقفة أمامه في الزقاق الضيق الذي لا يتسع لسيارتين، مصطحباً معه في رحلة الأمتار القليلة تلك بندقيته الكلاشنكوف التي لا تفارقه، والتي يكاد يبلغ طولها طول ذلك الفتى الاسمر الذي يحملها، وقف بمحاذاة السائق المسكين، وكان بالصدفة أحد وجهاء قرية الخيام الجنوبية، وجه بندقيته نحو عيني الرجل وصرخ بأعلى صوته وباللكنة الفلسطينية المعروفة: " ولاه... والله العظيم ابزق عليك بزقة اذوبك ... ارجع ولاه " .... فرجع صاغراً ومرّ " المناضل " من هناك.
هذه الحادثة البسيطة جداً، والتي يستذكرها أهالي الخيام والجنوب اللبناني في سياق رواياتهم التي لا تعد ولا تحصى عن مرحلة تواجد ما كان يسمى بالمقاومة الفلسطينية في قراهم وبين دساكرهم، والإنتهاكات اليومية والتوترات الأمنية فضلاً عن الفوضى التي كانت تؤرق حياتهم بفضل حروب الأزقة والتطاول على الأعراض والممتلكات والتعدي والقتل والسرقات والتجاوزات على الكرامات... كل هذا كان يحصل أيضاً تحت يافطة "المقاومة" يومها، لأن " الفدائي " كما كنا نسميه تحول إلى قوة مهيمنة تشبه إلى حد كبير الاحتلال ويمارس أبشع ممارسات المحتل.
نعم، في تلك اللحظة وفي تلك الأجواء ومن بين ذلك الركام النتن لتجاوزات" المقاومة "، ولأنّ صبر الجنوبيين قد فرغ تماماً، صار بكل أسف اجتياح قوات العدو الإسرائيلي للجنوب بمثابة خشبة الخلاص الوحيدة لهم، ونعم، في تلك اللحظة رشت نساء الجنوب وكثيرون من أهل الجنوب الرز والورود على دبابات العدو وجنود العدو، وإن من غير العدل ومن غير المنطق تعيير أهل الجنوب برش الرز من دون لحاظ المقدمات التي أوصلت إلى ما أوصلت اليه ونقد ومراجعة تلك المسببات أولاً وأخيراً.
وإنّ من الظلم بمكان سلخ ردة فعل الجنوبيين في لحظة الاجتياح وقراءتها خارج سياقها التاريخي الموضوعي، واعتبار أنّ التطابق اللحظوي بين الرغبة الجنوبية في التخلص من الجور الفلسطيني حينئذ هو مؤشر عمالة وخيانة يحاسب عليها أهل الجنوب.
والإستفادة الحقيقية من استرجاع تلك اللحظة إنّما يكون بالوقوف ملياً على محاسبة المسببين ( المقاومة الفلسطينية ) الذين أخرجوا الجنوبيين عن طورهم وعن مواقفهم التاريخية التي سريعاً ما عادوا إليها مع تبدل ظروفهم، وإذا كان لا بد من محاسبة تلك المرحلة فإنّ " المقاومة " بسلوكياتها وأدائها وحدها التي يجب أن تحاسب.
إنّ كل ما سيق أعلاه من أفعال وردود افعال، يمكن إسقاطه بالدقة على واقعنا هذه الأيام ولكن للأسف أيضاً يمكن إسقاطه ولكن على نطاق أوسع، وإنّ من الإجحاف والظلم أيضاً قراءة هذا التحول في مزاج الشارع العربي، وانتقاله من خانة البيئة الحاضنة لحركات المقاومة (وفي مقدمها كان يتربع حزب الله بلا منازع، وقد استحوذ بمقاومته على عقول وقلوب ووجدان الشارع العربي من المحيط إلى الخليج)، فإنّ انتقال هذا الشارع من خانة العداء لإسرائيل إلى خانة العداء للحزب ووسمه بالإرهاب من دون الرجوع إلى الاسباب والمسببات وإعادة النظر فيها.
إنّ اتهام حزب الله للكثير من الأنظمة العربية ولشرائح واسعة جداً من الشعب العربي (يصر الحزب على إغماض عينيه عنها ) بالعمالة والخيانة والتماهي بمواقفها مع مواقف العدو بدون أيّ مراجعة لسلوكياته ومواقفه وأدائه، يكاد يشبه إلى حد بعيد اتهام أهل الجنوب بالعمالة أيضاً بلحظة ما، وإنّ الهروب إلى الامام والإصرار على تخوين الآخرين كمبرر لردات فعلهم على شوائب تمارس باسم "المقاومة" ولا تمت لها بأيَ صلة، كالقتال في اليمن والعراق وسوريا، لن يوصل إلا للمزيد من الشرخ والوهن والضعف، ويكون المستفيد الحقيقي منها هو العدو الاسرائيلي فقط.
فإذا كان التخلص من محاكم التفتيش وبيع صكوك الغفران، وأبشع أنواع الظلم والتعذيب الذي كانت تمارسه الكنيسة باسم الله قد دفع بالفيلسوف الألماني نيتشة للقول " لقد مات الله " ،، فإنّ من الطبيعي جداً أن يقول الشعب السوري والشعب اليمني والشعب العراقي والشعب السعودي وكثير ممن يتلظون بنيران المقاومة : " لقد ماتت المقاومة " .