لم يعد سرّا ولا خافيا على أحد أنّ الصراع السني الشيعي قد عاد للظهور وبقوة في العالم العربي منذ فترة وجيزة لا تتجاوز الثلاثة عقود. ويُستحسن في هذا المجال إعادة التذكير ببديهيتين اثنتين : الأولى الصدع السني الشيعي ناتج عن انطلاق الإسلام في الجزيرة العربية وانتشاره، فالإسلام في طياته خطين متناقضين، وهذا سرُّ غناه وخصوبته، فقد حمل الإسلام للعرب ديناً جديدا ومشاريع سلطة وحُكم وفتوحات وسلطان ومُلك ، كما حمل لهم من جهة ثانية روحانية الرسالة وتعاليها وترفعها عن المال والسلطة وموبقات المُلك، وهذا ما أسّس للصراع الذي نتحدث عنه، فالعقدة لم تكمن في تأويلات مختلفة للقرآن والسنّة، بل اختلافات عميقة في هضم القيم الدينية، التي سرعان ما عمّقتها أحداث التاريخ، المسار التاريخي السني غالب، والمسار التاريخي الشيعي مغلوب.
الأول يفتخر باسلاميته ،باعتبارها رسالة كاملة وفاعلة ومقدسة، تؤمن للمؤمن طمأنينة الدنيا وسعادة الآخرة، في حين أنّ الوعي الشيعي مأساوي، فالرسالة النبوية ثُلمت منذ وفاة الرسول، وذلك بطمس وصيته وانتزاع الخلافة من وريثها الشرعي الإمام علي بن أبي طالب، وهذا المنظور التاريخي لا يتسق مع المنظور التقليدي الذي كرّسته الأدبيات البدعوية(كتب الفرق والملل والنحل)، والتي مازالت سائدة حتى اليوم، وما زالت "الفرقة الناجية" هي التي تقود الجهاد المقدس على ضفتي الإسلام: السّنة والشيعة.
الثانية ابتعدت طبيعة هذا الصراع خلال مراحل التاريخ عن منشأها الأصلي، فلم تعد متعلقة بقداسة القيم الدينية وتمثُّ لها، بل أضحت ملتصقة أكثر فأكثر بالشعائر والطقوس، خاصة في الجانب الشيعي(احتفالات ذكرى عاشوراء)، وتعمّق استخدام الصراع في المعارك السياسية والاجتماعية، وتبرير تدخُّل بعض الدول في شؤون غيرها، أو إعاقة الوحدة الداخلية للدول التي تتداخل فيها المذاهب وتتشابك.
واليوم ،عاد الصراع يؤرق عيون المهتمين فعلا بتجنيب العالم العربي ويلات هذا الصراع، وخاصة الدموية منها، هؤلاء الخائفين يقفون اليوم، وقد فاجأهم حضور هذا الصدع النفسي الرهيب بسرعة فائقة، وبأشكال متنوعة، مما خلّف اضطرابا في سبل معالجته، والوقوف في وجهه للحدّ من مخاطره، وقد كان للدور الإيراني منذ الأيام الأولى للثورة الإسلامية أثراً بارزا في تفاعلات الصراع، فقد حضرت إيران في المشهد العربي، وامكنها اختراقه في دول عدة ومجالات مختلفة، في حين كان العالم العربي قد خسر معاركه "التقدمية" وتلاشت الحركات العلمانية، وترسّخت دول الاستبداد والفساد، وهو على كل حال، ما زال فريسة الإسلام المتشدد والتكفيري ،الذي انطلق مع الإخوان المسلمين في مصر، وجماعات التكفير والهجرة من مصر إلى ليبيا وتونس والجزائر، وما زال الفكر الحنبلي المتصلب هو السائد والفعّال في في الخليج العربي وأروقة جامعة الأزهر الشريف، ومعروف أنّ الإسلام الحنبلي هو طقسي وشعائري،، الشعائر هي التي تتحكّم بالحركات والكلام واللباس والهيئة، والعمل والالتزام التام بالمواقيت، والموقف من أهل البدع ،وأهل الكتاب.
هكذا إسلام لا يمكن له أن يُولّد ثقافة إسلامية متسامحة ومنفتحة، قادرة على الوقوف في وجه بدعويات وافدة أو مقيمة ،على العكس، فهو يُغذّيها، ويتخذها حُجّة إضافية لتعزيز مكانته ومشروعيته السياسية والاجتماعية، وها نحن في حمأة نسخة جديدة من صراع المذاهب والذي تحقُتُه وسائل الإعلام وتقنيات الاتصال الحديثة، بالمصل اللازم ليفعل فعله، وينثر سمومه، فيما يقف الغيارى ليُنشدوا مع الشاعر: نُرقّعُ دنيانا بتمزيق ديننا فلا دينُنا يبقى ولا ما نُرقعُ.