ليست اللياقات الديبلوماسية أمرا عابراً بالنسبة الى أنقرة. غالباً ما أبدى مسؤولو حزب العدالة والتنمية الحاكم حساسية كبيرة حيالها. ولكن عندما ذهب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للمرة الاولى منذ توليه منصبه قبل سنتين الى طهران في عطلة نهاية الاسبوع، وضع الشكليات خلفه. ولم يبال بالاصول التي تقتضي أن يزور رئيس الديبوماسية الايرانية محمد جواد ظريف أنقرة أولا، للتعويض عن الغاء زيارته التي كانت مقررة للعاصمة التركية في اللحظة الاخيرة الصيف الماضي.
في ذروة التوتر بين إيران و السعودية التي تقود تحالفاً اسلاميا في مواجهة تطلعات طهران ومشاريعها التوسعية في المنطقة، وقف "كيسنجر الاناضول" أمام رجال اعمال ايرانيين ليقول ان ايران هي "كنز مخبوء" وأن تحريرها من "أغلال العقوبات" اطلق "عصر ذهبي " في العلاقات بين البلدين.
التقارير الاعلامية الواردة من أنقرة وطهران تشير الى أن الزيارة كانت ناجحة، على رغم أن الخلافات بين الجانبين في شأن الموضوع السوري والتحالف الفتي بين أنقرة والرياض، العدو اللدود لايران.
في الشكل، اتخذت الزيارة طابعا اقتصاديا، اذ رافق داود أوغلو وزراء الاقتصاد والجمارك والطاقة والنقل والاتصالات والتنمية. وقد اتفق الجانبان على زيادة حجم التجارة بينهما ثلاثة اضعاف خلال سنتين. ففي موازاة التوتر السياسي، تراجع حجم التجارة بين البلدين من 22 مليار دولار عام 2012 الى عشرة مليارات عام 2015. من هذا المنطلق، يمكن اعتبار رفع العقوبات الدولية عن طهران محفزا لأنقرة لتجاوز الشكليات والسعي الى بناء علاقات اقتصادية أكثر وثوقاً. وبدورهم، أبدى المسؤولون الايرانيون اهتماما كبيرا بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الجانبين التي طالما وصفت بأنها مزيج من العداوة والصداقة.
وفي السياسة، أكد الجانبان اللذان يدعم كل منهم فريقا معاديا للآخر في الحرب السورية ، مقاربتهما المشتركة للحفاظ على سيادة الاراضي سورية في ما اعتبر رفضا للخطة الروسية المحتملة لاقامة فيديرالية في سوريا، بينما لم يبديا أوهاما في شأن تقارب في الملف السوري.
وبعيد مغادرة داود أوغلو طهران الاحد، نقلت صحف عن نائب وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبداللهيان أن السياسات السورية لانقرة فشلت، الا أن حكومة أردوغان لا تزال تضغط لدفع سياسات تهدف الى اطاحة نظام بشار الاسد مدعومة من السعودية وقطر والولايات المتحدة. ومع أن داود أوغلو وظريف أعلنا من طهران دعمها "وقف الاعمال العدائية" في سوريا، لا تنفك الصحف الايرانية تعتبر أن الهدنة ليست بالنسبة الى أنقرة الا استراحة لاعادة تسليح المقاتلين المعارضين للنظام واعدادهم للجولة التالية للحرب.
والى سوريا، تختلف انقرة وطهران ايضا في الملف العراقي . ولعل التباين الاخير بينهما سجل في شأن الملف اليمني حيث أيدت تركيا "عاصفة الحزم" التي تقودها السعودية ضد معاقل الحوثيين في اليمن الذين يحصلون على دعم ايراني.
الاصطفافات الاقليمية
في الاصطفافات الاقليمية إذا، تقف ايران وتركيا في معسكرين معاديين، واقامت تركيا تحالفا مع السعودية اعاد تحريك فكرة اطاحة النظام في سوريا، فيما تحارب ايران مع الروس الى جانب قوات الاسد.وتتفاعل منذ اشهر أزمة خطيرة بين تركيا وروسيا.في ظل هذه الصورة، أثارت زيارة داود أوغلو لطهران تساؤلات كبيرة عن دور يمكن ان تضطلع به ايران في الازمة بين تركيا وروسيا، أو وساطة تركية بين ايران والمملكة.
وفي هذا الشأن، يقول الصحافي السعودي جمال خاشقجي لـ"النهار" أن التنسيق السياسي والعسكري السعودي-التركي جيد، "واعتقد أن المملكة مطلعة على تفاصيل الزيارة".وإذ يلفت الى أن أنقرة شريكة المملكة في الموقف السوري وتتفق تماما مع رؤيتها لمواجهة المشروع الايراني " فهي تتميز عن السعودية بخطوط الاتصال والمصالح الاقتصادية التي لا تزال ناشطة مع طهران، وقت أن العلاقات السعودية-الايرانية منقطعة ". هذا الواقع يمكن أن يجعل داود أوغلو "متحدثا مقنعا في طهران أكثر من (وزير الخارجية السعودي) عادل الجبير الذي لا يمكن أن يذهب الى طهران" و" التهديد السعودي-التركي بتدخل في سوريا بدأ يثمر ...فاذا كان بامكان ديبلوماسية السيد أوغلو تليين الموقف الايراني، فلم لا؟...السعودية تفضل حلا سياسيا للأزمة".
الواضح أن طهران وأنقرة قررتا اعادة اطلاق العلاقات بينهما.فتركيا التي باتت محاصرة بالعداوات بدل الاصدقاء من الجهات كلها، بدأ تبحث عن المصالح حتى في افريقيا.
الخبير التركي في الشؤون الدولي محمد علي دستمالي يرى أن زيارة داود أوغلو تكتسب اهمية ديبلوماسية وسياسية كونها تأتي بعد الانتخابات البرلمانية في ايران.فعلى رغم اجتماعات سابقة لانشاء شركة استراتيجية بين الجانبين، يقول إن "تلك الشركات لم تطبق بعد"، ويلفت الى أن وزير الخارجية ابرز المصالح المشتركة بين الجانبين التي توجب توطيد العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية ايضا".
هنا يطرح السؤال هل بدأ مهندس السياسة الخارجية لتركيا يمهد لديبلوماسية جديدة قد تأتي على حساب الحلف الفتي بين أنقرة والسعودية؟ خاشقجي لا يوافق الرأي القائل إن زيارة داود أوغلو لطهران تندرج في اطار خلط محتمل للتحالفات ، وإنما هي تأتي "في سياق التحولات في ايران، بما فيها الانتخابات الاخيرة ، وتعثر مشروعهم في المنطقة"، وإن يكن لفت الى وجوب الحذر من المغالاة في تقويم التحولات الايرانية.أما القول عن تحالف تركي-ايراني بمواجهة خطط الفيديرالية في سوريا، فيعتبره الكاتب السعودي "سابق لاوانه...لسنا في عهد الانتدابات".