لبيت دعوة «نادي فالداي» لحضور مؤتمره السنوي في العاصمة الروسية موسكو حول الشرق الأوسط في نهاية شباط الماضي، فكانت فرصة ممتازة للإطلال من الداخل على روسيا العائدة إلى الشرق الأوسط. ملأت روسيا دنيا الشرق الأوسط بعد تدخلها العسكري في سوريا خريف العام الماضي، فشغلت الناس بين معارض لهذا التدخل ومؤيد له. وغاب في معمعة الاشتباك الإعلامي بين المعارضين والمؤيدين للتدخل العسكري الروسي في سوريا ملاحظة الإطار الاستراتيجي العام الذي تتحرك روسيا من خلاله في المشرق العربي وغيره من مناطق العالم، وهو إطار لا تحركه اعتبارات عاطفية أو آنية، وإنما ترسمه مؤسسات متعددة لصنع القرار توخياً لما تراه مصالح روسيا الوطنية. على ذلك، تهتم هذه السطور بالمحاور التي يتحرك من خلالها الإطار العام للسياسة الروسية وعلاقتها التراتبية ببعضها البعض؛ وصولاً إلى إلقاء الضوء على أولويات روسيا عالمياً وشرق أوسطياً، وهي نتيجة تحليلية يفترض أن تهم معارضي التدخل الروسي ومؤيديه على حد سواء.
«نادي فالداي» وأهميته
أُسِسَ منتدى النقاش الدولي «نادي فالداي» في العام 2004، واكتسب اسمه بسبب عقد جلسته الأولى في مدينة فيليكي نوفغورود، الواقعة بالقرب من بحيرة فالداي. وحضر اجتماعات النادي السنوية منذ تأسيسه أكثر من ألف ممثل عن المجتمع العلمي الدولي من ثلاثة وستين بلداً، ما يعني أن المنتدى يمثل أكبر منبر للديبلوماسية الروسية العامة على الإطلاق. وتعكس المؤسسات المشاركة في صندوق «نادي فالداي» الأهمية الفائقة التي يوليها صانع القرار في روسيا للمنتدى، حيث تتشارك أربع جهات نافذة في التمويل وهي: «معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية» التابع لوزارة الخارجية الروسية، «المعهد العالي للاقتصاد» التابع للحكومة الروسية، «مجلس السياسة الخارجية والدفاع»، «المجلس الروسي للشؤون الدولية»، «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية ذي الباع الطويل في شؤون الشرق الأوسط وتنظيم المؤتمرات الدولية والقريب من الكرملين. باختصار، يعبر «نادي فالداي» عن مؤسسات صنع القرار الروسية، ويعكس رؤاها ونظرتها إلى العالم وإلى أدوار روسيا فيه.
محاور روسيا الاستراتيجية الخمس
يعمل «نادي فالداي» منذ العام الحالي على خمسة محاور رئيسية معلنة هي: أوراسيا في القرن الحادي والعشرين: دور جديد لروسيا، الشرق الأوسط ـ ساحة للمواجهة أم للعمل الجماعي؟ مشاكل النزاعات والأمن العسكري في القرن الحادي والعشرين، التجمعات الإقليمية حول العالم ونوع جديد من الترابط، روسيا والاتحاد الأوروبي في أوروبا المتغيرة.
وتعكس المحاور دوائر الاهتمام الروسية الحالية بجلاء، فالمحور الأول الخاص بالفضاء الأوراسي يمثل تاريخياً الفضاء الجيو ـ سياسي الأهم لروسيا منذ عصر القياصرة مروراً بالاتحاد السوفياتي السابق وحتى روسيا الاتحادية حالياً. في هذا الفضاء اصطرعت على مدار القرون السابقة إرادات موسكو والقوى الكونية الكبرى، وفيه دارت معارك روسية بالأصالة مع إنكلترا ثم أميركا لاحقاً، واستمرت صراعات بالوكالة بين تحالفات الطرفين حتى اليوم. ويعد الفضاء الأوراسي «الترمومتر» الأساسي لقياس القدرات الروسية الكونية تقليدياً، حيث ترتفع تلك القدرات بتعزيز مكانة روسيا فيه والعكس صحيح إلى حد كبير.
ولا تفوت ملاحظة وضع الشرق الأوسط في المرتبة الثانية مباشرة من حيث المحاور، ما يعني صعوداً ملحوظاً في مكانة المنطقة في مخيلة الإستراتيجيين الروس مقارنة بعقد واحد مضى. ويكشف عنوان المحور الثاني بوضوح «الشرق الأوسط ـ ساحة للمواجهة أم للعمل الجماعي؟» مجموعة من العناصر أولها أن تصورات موسكو للمنطقة وتوازناتها لا تقتصر على دولة بعينها (سوريا)، وإنما تمتد إلى كامل الشرق الأوسط. وثانيها أن الوجود الروسي في المشرق العربي لا يــبدو وفــقاً لذلك مؤقتاً زمنياً أو مرتهناً بتحقيق هدف سياسي تفاوضي بين النظام السوري والمعارضة، وإنما ممتداً ومتدحرجاً. وثالث هذه العوامل يتمظهر في التناقض بين موسكو وواشنطن من حيث الاهتمامات الشرق أوسطية، ففي حين تزمع واشنطن تقليص ارتباطاتها العسكرية المباشرة في المنطقة، تبدو موسكو عازمة على ملء الفراغ في المنطقة إلى حد ما، باستثمار التراجع النسبي في موازين القوى الدولية لغير مصلحة واشنطن.
أما المحور الثالث الخاص بمشاكل النزاعات والأمن العسكري في القرن الحادي والعشرين، فيكشف رغبة موسكو في استثمار قدراتها العسكرية الضخمة لاستعادة هوامش من حضورها الدولي فقدتها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. وتزداد هذه الحقيقة وضوحاً، مع ملاحظة غياب البعد الاقتصادي الدولي عن المحاور، الذي لا تملك فيه روسيا قدرة حقيقية على المنافسة مع القطب العالمي الأوحد. بمعنى أن روسيا تركز على نقاط قوتها القادرة على المنافسة وتنميتها لتحسين مركزها الدولي أي القدرات العسكرية، ولا تخوض في النقاط التي لا تملك فيها القدرة على المنافسة. ولعل رسمة كاريكاتير روسية تظهر ذلك التناقض، وفيها يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رافعاً يديه لإظهار العضلات، فكانت أحداهما قوية للغاية كتب عليها القدرات العسكرية وأخرى واضحة الهزال وكتب عليها الاقتصاد.
ويشي المحور الرابع المعنون: التجمعات الإقليمية حول العالم ونوع جديد من الترابط، باستمرار روسيا في انتهاج تكتيكات اتبعتها في العقد الأخير، وتحديداً تلك الخاصة ببناء حوائط صد في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية عبر بناء تحالفات مع دول مثل الهند وإيران، ومزاوجتها مع متغيرات كبرى مثل الصعود الكبير للصين على المسرح الدولي ومحاولة رسم تحالف إستراتيجي بين الصين وروسيا. وفي استمرار تكتيكات حوائط الصد والسعي إلى رفع الشراكة مع الصين إلى مستوى التحالف الإستراتيجي، نزوع لا يمكن للمتفحص أن يتجاهله من رغبة روسية عارمة في تغيير هيكلية النظام الدولي الراهن وتحدي القطبية الواحدة له عبر إعادة توزيع القوى بتحالفات جديدة على المستوى الدولي؛ بما يمهد في النهاية لعالم متعدد الأقطاب.
ينشغل المحور الخامس بموضوع روسيا والاتحاد الأوروبي في أوروبا المتغيرة، على خلفية تعثر الاتحاد الأوروبي في حل مشاكله الاقتصادية وقضية اللاجئين التي عمقت الصدع بين دوله، وخصوصاً بين ألمانيا، الدينامو الاقتصادي المحرك للاتحاد وبين دول شرق أوروبا الرافضة لاعتماد حصص بين الدول الأعضاء لاستقبال اللاجئين. في العقد السابق اعتمدت روسيا على الغاز الطبيعي الذي تملكه للضغط على الدول الأوروبية المستوردة له، من أجل عرقلة المحاولات الغربية للنفاذ إلى أوراسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق، فكان وسيلة مفضلة لموسكو في المفاوضات السياسية مع أوروبا. ومع الصعوبات الاقتصادية وقضية اللاجئين ـ السوريين أساساً ـ يبدو أن موسكو ترى تعديلاً مواتياً لها في موازين القوى مع أوروبا، ويهمها بالطبع رفع العقوبات الاقتصادية الأوروبية المفروضة عليها والتي تضغط على اقتصادها. وإضافة إلى العقوبات لعب الانخفاض الكبير في سعر النفط، سلعة التصدير الروسي المهمة، دوره الكبير في هبوط العملة الروسية الوطنية الروبل إلى مستويات قياسية أمام الدولار الأميركي، بلغت أكثر من خمسة وسبعين روبلاً للدولار الواحد. وربما تحتاج العقوبات الاقتصادية على روسيا تحليلاً مدققاً، لجهة تأثيرها على قدرة روسيا على الاستمرار في سياساتها الدولية وفي المنطقة، لما هو معلوم من ترابط بين السياسة والاقتصاد.
الخلاصات والاستنتاجات
لم تذكر الولايات المتحدة الأميركية صراحة كمستهدف في المحاور الخمسة التي يعتمدها «نادي فالداي» كمحاور رئيسية للبحث هذا العام، إلا أن أهداف هذه المحاور وأولوياتها وتراتيبها تعلن عن ذلك بوضوح.
يبدو الصراع الجيو ـ سياسي محوراً للاستراتيجية الروسية العالمية؛ في حين يتوارى العامل الجيو ـ اقتصادي من أولوياتها، ذلك الذي لا تملك فيه روسيا باعاً طويلاً.
يؤخذ العامل الصيني كقوة بازغة كبيرة على المسرح الدولي بالاعتبار جدياً في موسكو عند تحليل مسرح القوى الأوراسي الكبير وتشخيص ميزان القوى الدولي، لأن تحدي روسيا الجيو ـ سياسي لأميركا في أوراسيا والشرق الأوسط يمكنه أن يكتسب زخماً أكبر وأكثر اتساعاً، في حال نسّقت الصين معها تحديها الجيو ـ اقتصادي الموارب وغير المعلن ولكن الفعلي لواشنطن.
تصعيد الشرق الأوسط إلى المحور الثاني للتحرك الروسي الاستراتيجي العام بعد منطقة أوراسيا، يكتسب أهمــية تحليــلية فائــقة، خصوصاً أن ذلك يترافق مع فك الارتباط الجزئي مع المنطقة من طرف إدارة أوباما والتراجع النسبي لمكانة أميركا الدولية. تأسيساً على تحليل المحاور الاستراتيجية الروسية وتراتبيتها، لا يبدو الوجود الروسي في المشرق العربي مؤقتاً زمنياً أو حتى مرتبطاً بحل الأزمة السورية تفاوضياً أو عسكرياً، وإنما ممتداً ومتدحرجاً وفي إطار التوجه الاستراتيجي العام لروسيا في العالم.