المطلوب في لبنان مساحة مرنة للرأي والموقف والاطروحة , في مقابل ثقافة الرفض المطلق كما يحاول البعض إثباته بتعليلات الخوف من الآخر , وقلق الاقليات المتوهمة , لأن الرفض المطلق ليس منطقا بنّاء ولا حضاريا , بل أنه منطق العصور الموغلة في التخلّف والجهل , حيث كان سائدا فيها حكم مَنْ يدعي المُلكية الحصرية للحقيقة , هذا ما جعل الواقع منقسم إلى قسمين لا ثالث لهما , ولا وسط بينهما , الرفض المطلق أو القبول المطلق , هذا تماما ما هو سائد في لبنان اليوم حيث أن كل طرف من الاطراف المتصارعة تدعي ملكية الحقيقة , وتقسّم الناس على اساس ما تراه من حق أو باطل , ولا تترك أي مساحة أو هامش للآخر المختلف في السياسة أو في الدين , وهذه الاطراف المدعية لا تعيش خارج التاريخ فحسب , بل أيضا تعيش خارج الواقع المعاصر , وتعصم نفسها من كل خطأ وزلل , وتعيش داخل ثقافة تطلق عليها صفة التمامية , متجاهلة بذلك الحتميات التاريخية , وضرورات التغيير والتغير , لان من شأن الحياة الانسانية ومن ملازماتها التغيّر الطبيعي , ولا يوجد في التاريخ ولا في الاجتماع ولا في السياسة أي مساحة ومكان للرفض المطلق أو القبول المطلق , للضرورات الحتمية في تغيّر الاسباب والمسببات , والمعطيات والاولويات , وهذا من بديهيات التجارب التاريخية المحكومة بالحتمية التاريخية .
لماذا يُساق لبنان إلى هذا المكان والزمان , بهذا المنطق اللاعقلاني , ومتجاوزا الخصوصية اللبنانية في تنوعه وفرادته , والتي تفرض منطق الوسطية المرنة , بحكم واقع تركيبته التعددية , حيث لا يمكن ان يحكم لبنان بغير ثقافة التواصل المتقوّمة بثقافة الإعتراف بكل مختلف سياسي وديني وإجتماعي , بفضاء من الحرية تحمي مساحة الوسطية المرنة , والاعتراف بنسبية الحقيقة , ورفض منطق التمامية والنهائية .
ينبغي تحرير العقل اللبناني من رواسب سلبية تتحكم الآن بفرض موقعه في المكان غير المناسب له , وقناعات وصور وهميّة عن الآخر , فرضتها ظروف الحرب الداخلية والاقليمية , وساعدت على ذلك الصراعات الدولية , هذه المهمة الكبرى هي الان أولوية اللبنانيين الذين يريدون أن يكون لهم مكان في مستقبل لبنان , قبل التغيير الحتمي اللاإردي الذي لا يعطي لمن لا يبادر أي دور , ولات ساعة مناص .