دخلت ثورات «الربيع العربي» سنتها السادسة ولا تزال بداياتها من تونس تثير علامات الاستفهام. وقد نُشرت روايات متعددة عن بائع الكمثري (الإجاص) الذي أشعل النار في ملابسه، احتجاجاً على حرمانه من رزقه وفارق الحياة، وكان موته الشرارة التي أطلقت الثورة فعمّت خمس دول: تونس – مصر – ليبيا – اليمن – سورية.
بعد خمس سنوات، تُستعاد الرواية التونسية على حقيقتها كما حصلت. فالموظفة في بلدية ولاية «سيدي بو زيد» واسمها «فايدة حمدي» لم تصفع البائع المتجول «الضحية»، بل هي كانت قد أنذرته أربع مرات بوجوب الاستحصال على رخصة تسمح له ببيع الفواكه على عربته المتنقلة، لكنه أهمل الإنذار. وصباح 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010 دفع «البوعزيزي» عربته إلى موقف سيارات الأجرة، وكانت محملة بفاكهة الكمثري، ولم يكن قد حصل على رخصة، فما كان من الموظفة إلا أن أخذت منه الميزان، فثار غضباً وركض نحو مركز البلدية طالباً مساعدته بحل عاجل، ولم يكن ذلك ممكناً، فخرج إلى الساحة فاقداً أعصابه، وتوجه فوراً نحو عربته، وكان يخبئ فيها قارورة مادة حارقة فسكبها على ثيابه وأشعل فيها النهار، وإذ نُقل حالاً إلى مستشفى، فقد فارق الحياة بعد أسبوعين انفجرت خلالهما ثورة تونس، وسقط فيها نحو أربعين ضحية، فيما ذهبت الموظفة فايدة حمدي إلى السجن تنفيذاً لحكم صدر بحقها وقضى بحبسها أربعة أشهر.
هي تفاصيل عادية جداً ترويها الموظفة التونسية تعبيراً عن حزن عميق يسكنها من دون ذنب، خصوصاً بعدما خرجت الثورة المفتعلة من تونس وراحت تضرب في الأقطار العربية، مخلّفة الأهوال.
هذه الخلاصة تطرح السؤال الكبير: هل كانت مؤامرة؟ وإذا كانت مؤامرة فمن هي الجهة، أو الجهات التي تملك القدرة والإمكانات لتحويلها براكين تدمر المدن والأرياف، وتقتل الآلاف وتهجّر الملايين، ويبقى النظام وحاشيته، كما هي الحال في سورية؟
هناك اسم لا يزال عالقاً في أذهان عدد كبير من السياسيين والإعلاميين العرب والسوريين، وسواهم هو «دنيس روس» الديبلوماسي الأميركي الذي تابع الكوارث التي حلت في لبنان خلال الحروب الإسرائيلية التي كانت تجتاحه في زمن ضعفه بين السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي.
دنيس روس كتب في نشرة «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» بتاريخ 17 شباط (فبراير) 2016 مقالاً تناول فيه ما يجرى في سورية على عتبة اتفاق «الهدنة الموقتة». ومن مجمله هذه الأسطر:
«أدت الكارثة في سورية إلى سقوط مئات الآلاف من القتلى ونزوح 11 مليون شخص. وإذا سمح الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه في ميونيخ بوقف «الأعمال العدائية» وإيجاد ممرات إنسانية، فإنه سيستحق العناء. ولكن من الصعب التفاؤل في هذا السياق، ولا يعود ذلك إلى أن بشار الأسد يقول أنه سيستمر في ملاحقة الإرهابيين، فهذا تصنيف يدرج ضمنه في شكل مقصود جميع خصومه تقريباً. ويتابع دنيس روس: «لكن لا أهمية لكلام الأسد لأن ليس في وسع قواته أن تحقق الكثير من دون روسيا والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، وحتى القوات التي تدعمها إيران تعتمد في شكل متزايد على الروس للحصول على الغطاء الجوي والدعم المدفعي».
ويضيف: «إن الروس هم الذين يتمتعون بالأهمية التي تستطيع ان تحدث فرقاً، وهم اعتمدوا مرة جديدة في نمط الاتفاق مع الولايات المتحدة على مبادئ عامة لتخفيف حدة الصراع السوري، ثم تصرفوا بعد ذلك من دون احترام تلك المبادئ».
واضح من هذا الكلام أن الديبلوماسي الأميركي المجرّب يعتبر أن الروس مسؤولون عما يجرى في سورية منذ بداية الحرب مع استمرارها، ومعنى ذلك أن العقدة في سورية ليست الأسد، إنما هي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ففي بيروت، وفي إطار ندوة سياسية عُقدت في مقر «رابطة أصدقاء كمال جنبلاط»، كان العنوان عن «أسباب التدخل الروسي العسكري في الأزمة السورية وتداعياته الإقليمية والدولية وانعكاساته على الأوضاع في لبنان». وكان سفير روسيا في بيروت ألكسندر زاسبكين أحد المحاضرين، وكان المحاضر الثاني سفير لبنان السابق في واشنطن الدكتور رياض طبارة، وهو انطلق في مداخلته من موقف الرئيس فلاديمير بوتين «الذي حلم بإعادة بناء عظمة روسيا»، مشيراً إلى أن «انهيار الاتحاد السوفياتي» كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، وقد كان لموسكو اربع دول صديقة وحليفة في المنطقة، واليوم لم يعد لها سوى القاعدة البحرية الصغيرة قرب مدينة طرطوس في سورية».
كانت هذه خلاصة واقعية مرة، لكن السفير طبّارة عاد وتناول دور الكرملين برئاسة بوتين في منطقة الشرق الأوسط، وحصرياً في سورية، حيث سارع إلى ترسيخ وجوده العسكري دعماً للنظام ومع التوسع في إقامة قواعد عسكرية في عدد من المناطق بهدف إطالة أمد وجوده إلى أجل غير محدد.
أما السفير الروسي فقد قصد في بداية مداخل الإيضاح بأن مهمته هي شرح الموقف الرسمي لدولته في موضوع تدخلها العسكري في سورية. لكنه حرص على التأكيد «أن العودة بروسيا إلى الاتحاد السوفياتي، أو إعادة بناء امبراطورية روسية، غير مطروحة على الإطلاق، مشيراً إلى أن روسيا تكتفي بالتعامل مع جاراتها السابقة على تنظيم العلاقات الاقتصادية لمصلحة جميع الأطراف.
لكنّ سؤالاً واحداً طُرح على السفير الروسي مرتين، وفي المرتين تجاوز السؤال من دون جواب. كان السؤال: من يحكم سورية اليوم؟
كان واضحاً أن السفير لا يريد الدخول في التفاصيل السورية، لكنه كان صريحاً وواضحاً في الاعتراف بأن التدخل العسكري الروسي في سورية كان رد فعل على ما حصل في دول عربية أخرى مثل ليبيا (حيث ذهبت الغنيمة إلى الأميركيين والفرنسيين والإيطاليين). ثم أكد بوضوح: روسيا لا توافق على إسقاط النظام في سورية. إنما تعمل على تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية «ترضي الجميع»... وطبعاً لم يقل أن هذا هو المستحيل.
ويعود التساؤل: كيف كان لعملية فردية مأسوية أقدم عليها شاب تونسي بائس أن تحدث كل تلك الثورات، وكل ذلك الدمار والموت والتشرّد الذي أصاب خمس دول عربية، وأن يكون الفاعل ذلك الشاب الضحية؟!
ثمّ، لماذا تأخر التحالف الدولي المؤلف من الدول العظمى والمتوسطة خمس سنوات قبل أن يفرض «هدنة موقتة» من مستوى الهدنة التي التزمها أخيراً، وقد وصفها بأنها «موقتة»؟
أياً تكن الأجوبة يبقى جواب واحد هو الأقرب إلى الحقيقة والواقع: سورية التي كانت قبل آذار (مارس) 2016 لن تعود. والنظام السوري يدرك أنه بات في الفصل الأخير من ولايته التي دامت نحو خمس وأربعين سنة.
كان الرئيس الأميركي باراك أوباما قد نبّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مخاطر التوغل في الحرب السورية في بداياتها. قال له: لماذا تقدم على هذه المغامرة التي قد تودي بك إلى الغرق في المستنقع؟
لعل نصيحة أوباما في محلها. فالرئيس الأميركي يعرف أن النظام السوري «الصامد» يعيش منذ خمس وأربعين سنة برعاية واشنطن وعلى نفقة موسكو عاصمة الاتحاد السوفياتي سابقاً، والاتحاد الروسي حالياً.
أي سورية جديدة سوف تولد بعد هذا المخاض العسير الطويل؟... سؤال جوابه في الغيب المفتوح على الرئيس الأميركي المجهول والمنتظر في مطلع السنة 2017. وسواء كان ذلك الرئيس ديموقراطياً او جمهورياً فالرجاء العربي منه باطل. ذلك أن الحظ دائماً لإسرائيل التي تنعم بالبلاء العربي المديد.
عزت صافي \ كاتب وصحافي لبناني